لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
هل تساءلتَ يومًا عن حياه الفيروس الذي يفتك بصاحبه أو يعفو عنه كيف تكون؟ لم يكن أبدًا في مخيلتنا أن نشهَدَ وباءً عالميًّا يحصد الأرواح، ويقلّص الحياة في أعيننا، ولم يتردد الكثيرون منّا أن يهرعوا إلى تجارب البشر القديمة مع الكارثة البشرية التي تزور الدنيا من آنٍ لآخر ،علّهم يجدون فيها الشفاء، وكنت أحد الذين مالت أيديهم نحو ما كُتب في الأدب عن الأوبئة، فجذبتني رواية (
إيبولا 76) للتشابه العجيب بين سلوك البشر في تلك التجربة مع سلوكهم اليوم.في هذه الرحلة الفريدة للروائي (أمير تاج السرّ) نتعرّف مسيرة القاتل (إيبولا) داخل الأجساد، بدايةً من تفشيه في الكونغو مرورًا بجنوب السودان وصولًا إلى اللاشئ، و هكذا هو الأدب حينما ينظر إلى الواقع يعيده خلقًا آخر، فإذا أردتَ أن تفهم الحياة فانظر في الأدب و إذا أردت أن تفهم الإنسان فانظر في الأدب فهما الوجهان لعملة الإنسان.
"تتبع إيبولا القاتل، لويس نوا ظُهْر ذلك اليوم الحار من شهر أغسطس (76) و هو يتحرّق شوقًا ليسكن دمه"صدرت رواية (إيبولا 76) عام (2012م) عن دار الساقي، تدور أحداثها عن الحمى النزيفية التي يسببها الفيروس إيبولا، و تدور أحداثها بين الكونغو و جنوب السودان. يأخذنا الكاتب أمير تاج السرّ في مسيرة مع هذا الوحش الكاسر إيبولا، الذي صوره لنا كشبح رجل يتحرّك في الخفاء؛ ولكن خفاءه لا ينفي أبدًا حضوره الذي يفتك بالناس من حوله، فهو يتكلم ويخطط ويقرر أن يقتل ويصيب كما يقرر أن يترك .
مراجعة رواية حكاية السيد زومّر (أو الطفل الذي لا يموت) لباتريك زوسكيندلماذا نقرأ الرواية؟ مراجعة رواية دموع القاتل لـ آن لور بوندو: حكاية تنتهي بدموع القارئ
الفكرة
أستطيع أن أقول إن فكرة هذا العمل هي البطلة، فكرة أن يجسد الكاتب الفيروس في شخصية حيّة، شبحٌ ما أو ربما إنسانُ خفيّ أو قاتل مأجور يتتبع ضحاياه، مما أضفى الخيال والعنصر السينمائي على الرواية.
رسم الشخصيات
كما تعد الشخصيات هي الخيط الأساسي الذي يعتمد عليه الكاتب -بعد الفكرة- فمن خلاله يسلّط الضوء على الأفكار التي يريد بَثَّها في نفس القارئ، والشخصيات هنا ليست فريدة بقدر ما هي أنماط بشرية عامّة، توجد في مثل هذه الكوارث وفي كل زمان و مكان ."لويس نوا" ذلك العامل الذي أخرجه الحزن على عشيقته من بلاده السودان ذاهبًا إلى الكونغو؛ من أجل البكاء على قبرها ووضع بضع زهرات سوداء هنالك بعد أن تخطّفها الشبح المخيف الذي لم يكن أحدًا يعرفه آنذاك، والذي يقابل فتاة أخرى أثناء عودته فيعشقها حتى تتسبب بإصابته بالفيروس، هكذا بمنتهى الخفة والعبثية يصبح (لويس نوا) هو معبر القاتل إيبولا إلى جنوب السودان.
زمن الكوارث لا يفي صبح الرعب طبقيًّا، تحمله الوجوه الخشنة والمتعبة فقط، ولكن تجمله أيضًا وجوه أكثر البشر رُقِيًّا تحصنًا. تثير الكوارث والموت القريب المُحْدِق بالجميع من كل جانب نفس التساؤلات البشرية، والمخاوف التي تسري في القلوب والظنون، كما تخرج أنبل المشاعر الإنسانية وأرذلها مثل التعاطف مع مجهولين، والقدرة على أن يتحمّل البشر بعضهم بعضًا، بل وأن يُضَحُّوا بأنفسهم في سبيل الآمال بأن تتحسن أمور الحياة وإن لم تكن حياتهم.الخوف والذعر الذي ينتشر بين الناس، ولا يفرّق بين كبير أو صغير، يتخبط الجميع في هلع المرض،حتى الخوف من تطور المرض وتحوره وتفاقم أمره، والخوف من عدم وجود علاج، وكذلك الخوف الاجتماعي الذي يصيب الناس حول مصائر أعمالهم و طعامهم وشربهم و مصير أبنائهم في التعليم والحياة، بل وإكمال السنة القادمة في المدرسة.و لا ينسى "تاج السرّ" أن يعرِّجَ على الجهل الذي تَغرق فيه دول العالم الثالث حيث يُرْسَل الفيروس إلى بلاد أوروبا كي تحاول تصنيع العلاج له، بينا ينتظر الضحايا وأهل الفيروس الذي ولد بينهم.الأمل في النجاة الذي لا يستطيع البشريّ التخلي عنه حتى وهو على عتبات الموت، في شخصية الفنان العازف (مونتى) ذلك الأعمى الذي تشبث بالموسيقى وبالحفل الصاخب حتى آخر يوم في هرمه.كما استطاع أن يتعمق في النفس البشرية الممتلئة بالشهوات والآمال المحطمة بالمرض الخفي من خلال شخصية الزوجة "تينا"، تلك التي انتظرت زوجها واعتقدت أنه أصبح لها وحدها بعد موت عشيقته فاحتفلت وعزمت على دغدغة قلبه وعواطفه وأعدت لذلك كل شئ حتى عاد إليها ليصيبها بالمرض لتموت وهي في قمة تمسكها بالحياة.ولم ينس الكاتبّ شخصية الرأسماليّ الذي لا تثنيه فواجع البشر عن حب التهام المال، وشِراء عَرق الفقراء بثمن بَخْس واستغلال الكوارث الإنسانية لصالحه، فجيمس رياك هو صاحب مصنع الألبسة القطنية الذي يعمل فيه البطل "لويس نوا" ولم يكن "نوا" يبغض أحدا كما أبغض هذا الرجل، وحينما أصيب "لويس نوا" بالفيروس ثم شفي منه وأُدخل في فترة النقاهة تلك التي كان يتعيّن عليه فيها أن يستريح ذهب صاحب المصنع إليه كي يعيد معه تشغيل المصنع مستغلًا فَقْره الشديد وحاجته إلى المال وذلك بعد أن طرده قبلًا لعدم حاجاته إليه.و هكذا جسّد الكاتب الطمع البشري في أسوأ حالاته، كما جسّد اللحظات الصعبة ومشاهد الفراق والآلام عند موت الأحبة، فها هي زوجة لويس تعانق الموت وهي بَعْدُ شابّة، وتجلس بجانبها أمها لتسمع وصيتها، ثم تصاب هي الآخرى بعدها بسبب المخالطة الدائمة لابنتها و يُلقى بالاثنين في مقابر جماعية يوضع فيها الناس أحياءً و أمواتًا من هول المرض وسرعة انتشاره.
السرد
الحلقة الأخيرة في بناء هذه الرواية حيث الراوي الذي يحدثنا عن القاتل ويفسر لنا نفسيات الشخصيات لنراها من الداخل وتتضافر كل تلك العناصر السابقة، مع لغة "تاج السرّ" ذات الطابع الشعري لتخرج لنا رواية من أجمل ما يقرأ في الروايات التي تتحدث عن الأوبئة.لقد تجسّدت في الرواية وحشية المرض وتفاصيل إيلامه للجسد وأعراضه التي تنتشر سريعة ببراعة وساعد الكاتب على ذلك خبرته كطبيب بشريّ، كما تناولت هذه الرواية شكل المجتمع أثناء أزمه الوباء وأوضحت لنا العديد من المظاهر التي تكاد تكون نمطًا متكررًا في المجتمعات الإنسانية في أوقات الأمراض و تفشي الأوبئة.بدأتُ قراءة هذه الرواية -صغيرة الحجم- في الوقت الذي بدأ فيه السيّد (COVID-19) في اجتياح العالم، ومازال بالناس حتى أجلسهم جميعًا -إلا قليلًا منهم أو كثيرا- داخل المنازل ليبدأوا رحلتهم الخاصة مع الحذر والخوف كما بدأها من قبل أهل السودان والكونغو مع إيبولا القاتل.صحيح أن الفارق بين كوفيد وإيبولا قوي وظاهر فالأول أكثر رحمة وأقلّ فتكًا من الآخر، في حين أن سرعة انتشار الثاني كالنار في الهشيم، وإذا كانت هذه الرواية تريد أن تخبرنا بشيء واحد في زمن الكورونا فإنها تخبرنا أننا البشر متشابهون حدّ الجنون.
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد