لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
"حتى أتخلى عن فكرة البيوت"
هو العنوان الذي أطلقته الشاعر المصرية إيمان مرسال على إحدى دواوينها، وكالعادة يسير العالم بعيداً عن الشِعر، ليضطر مع اجتياح وباء كورونا للعودة إلى البيت، بعدما عاش لوقتٍ طويل معظم أيامه بين مكاتب العمل والسفر والتنزه وممارسة النشاطات في الخارج. يعود الناس الآن لممارسة جميع الأنشطة من المنزل، العمل والرياضة والتأمل وكل ما كان يؤدى حصرًا في مكانه المخصص. لقد عاد الناس إلى بيوتهم دون رغبة حقيقية إنما اضطرارًا وكنتيجة حتمية من أجل حماية أنفسهم وأهاليهم من الإصابة بالوباء.لقد أعادوا اكتشاف البيت بتفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة. المتابع على مواقع التواصل لاحظ توجهًا عالميًا لإعادة ترتيب المنازل، التخلص من الفوضى، التنظيف العميق، اكتساب مساحةٍ جديدة وتخصيصها للعمل، أو مكانًا لممارسة الرياضة أو التأمل، وأيضًا خلق مساحة لعبٍ للأطفال.أعاد الجميع خلق علاقة مع المكان الذي سيقضون معه فترة مفتوحة وتهييئه للشركاء والصغار، استغلال مساحات الشرفات كمكانٍ خاصٍ لشرب القهوة والشاي، وللاستمتاع بفيلم أو قراءة كتابٍ وربما لأشغالٍ يدوية.لطالما كان البيت المساحة المادية الأكثر حميمية وأمانًا خاصة في مجتمعاتنا الشرقية، أن تدخل بيت شخصٍ فهو منحك بطاقة عبورٍ لذاته سامحاُ لك بكشفِ جزءٍ مهم وسري منها. لقد تعاطى الأديب إبراهيم أصلان موضوع "البيت" بصورةٍ دقيقة وسلسلة عبر مجموعته القصصية (
حجرتان وصالة: متتالية منزلية) كقصص بسيطة يأخذ فيها القارئ إلى حجرات المنازل والصالون، غرف النوم، زخارف الصحون وروائح المطبخ، صوتَ الأم وتيه الأولاد، عودة الأب من العمل. شكّلَ منهُ عالمًا ثريًا ودافئًا ومادة أدبية خصبة.يُعد البيت جزءًا لا يتجزأ في الأدب من خلال الشخصيات المبدعة التي غالبًا ما تفضل العزلة عن العالم لممارسة ابداعها وكثيرًا ما تظهر في السرديات العربية كمسرحٍ للأحداث كما جاء في رواية
مريم الحكايا لعلوية صبح،
حكايتي شرحٌ يطول لحنان الشيخ، وغيرهما.في السينما يظهر البيت بصورةٍ أوضح، كخلفية للمشهدِ أو بشكلٍ أساسي في القصة، أو فضاءً يبرز شخصية الأبطال. في هذه الأعمال السينمائية نعرض صورة ورسالة مختلفة للبيت في كل فيلم.
في هذا العمل السينمائي الحائز على أربعِ جوائز أوسكار، يُشكل البيت حبكة أساسية في القصة حيث تنتقلُ العائلة الفقيرة التي تنتمي إلى حي شعبي فقير غرق في الأمطار إلى بيتِ العائلة الغنية خلال رحلة هذه الأخيرة. يمثل البيت أول معيار للطبقة الاجتماعية التي تنتمي لها كلُ عائلة، تعامل الأفراد مع أثاثِ البيت وغرفه وتفاصيله. يُمثل أيضا مخبأ وسرا عميقًا للخادمة وزوجها الذي احتفظت به لسنواتٍ طوال، يُشكل القبو بالتحديد في هذه القصة سرا خالدا من حكاية الزوجين (خادمة / زوجها) وحياةً كاملة معلبة في قبوٍ. كما يشكلِ أيضا مسرح جريمة وتحول الحديقة الخضراء التي تحمل ذاكرة عائلية ومشاهد دافئة إلى صورة من الدم والكراهية.
لا يمكنُ لمشاهدِ الفيلم أن لا يقف مندهشا أمام مشهدٍ من أقوى مشاهد العمل، الشجار الغاضب والحانق الذي جمع الزوجين تشارلي ونيكول في أحدِ غرفِ البيت أين أصيب الزوج على مستوى اليد بعد كسره لصحن زينة. لقد كان الحاضن الحميمي السري الأكثر أمانًا لزوجين يُقرران الانفصال بعد أن استحالت الحياة بينهما. الصراخ ، الغضب، الحنق، التكسير كل هذهِ التصرفاتِ بين الطرفين تدل على تواجدها في مساحةٍ آمنة بامكانها استيعاب كل رداتِ الفعل السلبية قبل الايجابية. تعيش معهما هذه المساحة أيضا في مراحل مختلفة من العلاقة منذ بدايتها الرومانسية اللطيفة التي نتج عنها طفل، ثم انتهاجها مسارًا آخر بما يحمله من مشاحناتٍ وغضبٍ، البيت ذاكرة أيضاً.
في مطبخٍ مكتظٍ عن آخره وغرفٍ فوضوية لمنزلٍ مكون من طابقين، تعيش البطلة وزوجها وكذلك الأطفال. تفقد البطلة عملها في المصنع وتحتاج لجمعِ أصواتِ زملائها في الانتخابات التي تقضي بالاحتفاظ بها أو التخلي عنها لصالحِ رفعِ مرتباتهم.لم تكن صور الفوضى المنزلية إلا مرآةً للركض المحموم التي مارسته من حي لآخر ومن زميل لآخر مستجدية إياه بالحديث والدموع للموافقة على التصويت. فوضى الحياة الحالية والمستقبل المضبب وضعفِ أمل فرص عملٍ جديدة ومدخول يغطي احتياجات البيت والأسرة.
يبدو "البيت" في قصة نوارة، مفتاحًا لجنة موعودة، شابة يتيمة وفقيرة تعمل في فيلا لأحد رجال الأعمال والسلطة المتورطين في قضايا فساد بعد ثورة 25 يناير، تنتقل كل يومٍ بين حي هاي كلاس وأحياءٍ شعبية تغرق في جهلها وفقرها. تحلم ببيتٍ يجمعها وخطيبها ليتوزوجا كأي حبيبين يريدان سقفا وبابا يسبحان في فضائهما.البيتُ في حيا نوارة مكانُ النومِ الذي يفتح باكرًا ككشكٍ صغير للبطاطس والباذنجان المقلي، مقرًا للعمل بينما يفيض بالغرفِ الفارغة ومأوى صغيرٍ للكلب في الفيلا التي تعملُ بها.
في هذا العمل السينمائي الإنساني الغارق في فلسفته وحزنهِ، يبدو البيتِ عالماً متكاملا في قصةِ حبٍ لو صح تسميتها كذلك. بيتُ هانا الذي يكتشفُ فيه المراهق مايكل الجسد. ليس الجسد الأنثوي فقط بل جسده، يتماهى لأولِ مرة مع رغباتِه أين تقود "هانا" المرأة التي تحمل صورة أمومية وصورة الحبيبة أيضًا. يقرأ فيه مايكل على مسامع هانا كلاسيكيات الأدب العالمي ويُجرب فيه معنى الشوقِ واللهفةِ ، المشاعر والجنس لأولِ مرةٍ. يدخلُ مايكل طفلا ومراهقا إلى بيتِ هانا ليخرج رجلاً، عمرٌ كاملُ في بيتٍ.
في مشاهدٍ متشابهة تقف البطلات الثلاث للعملِ في البيتِ لممارسةٍ أدوارٍ مختلفة، لكنها وبشكلٍ دراماتيكي جزء من مشهدِ حياتهن. تقول فرجينيا وولف وهي إحدى البطلات "غرفة تخص المرء وحده" وهذا ما كان يظهر جليا وهي تختار الغرفة لتكتب فيها روايتها، ليس بصفةٍ اختيارية تامة لكنه المكان الأكثر هدوءًا لمارسة فعل الكتابة. في مشهدٍ حزين تقف بعده لورا براون تغيير حياتها بينما تعد كعكة عيدِ الميلاد لابنها، لتهرب بعدها مباشرة من هذا البيت الذي يمثل سجنا قاسيا، ومقلما لأجنحتها التي تحلم بحياةٍ أخرى غير التي تشبه لما تعيشه. وفي مشهدٍ قاسٍ تفقد السيدة دالاوي صديقها الشاعر ملقيا نفسه من نافذة البيت، مانحا للنافذة لقب آلة الإعدام. وفيهِ أيضا تعدُ الورود لحفلةِ التوقيع.ثلاثة دلالات مختلفة تُمنح للبيت حسب الحكايا والحيواتِ التي يحملها.دلالات كثير لفكرةِ البيت، الحكايا، القصص والأسرار، الدفء والحضن والأمان، كلها دلالات تصبُ في فكرة واحدة "حتى لا نتخلى عن فكرة البيوت"
إليك أيضًا
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد