لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
كم منصة تدخلها، وجريدة تتصفحها، وموقعًا تزوره، وتكون الكتابة فيه، وأعني الكتابة المقالية، ركن من أركانه؟.. يكاد يكون هذا، في الفترة الأخيرة، هو عامة تصفح الناس في وقتنا، الكثير من الكُتّاب، والعناوين الرئيسية والجانبية، وقد وصلت في هذه المرحلة من مراحل الإنترنت إلى درجة تنسيق جميلة لم نحلم بها يوم كان صندوق الكتابة في المنتديات على حال كئيبة بدايات هذه الشبكة، لكن كان هناك الكثير من المكتوب الذي نفخ في روح محركات البحث العربية، وقربت العالم العربي من بعضه تواصلًا.
لماذا نكتب؟
هذا هو السؤال الأزلي لمهارة الكتابة، لا أعتقد أن الكثير من الكتاب يمتلكون الوعي بإجابة هذا السؤال لحظة بروز الفكرة، لأنهم منوّمون مغناطيسيًا تجاهها، يتبعونها إلى أين ما تذهب بهم، مع وعيهم بأنها تتجه بهم أحيانًا إلى مهاوي الردى دينيًا أو سياسيًا أو فكريًا أو أدبيًا أو اجتماعيًا، ولا يفكرون لماذا؟ لماذا بدلًا من أن أكتب، وأنشر هذه الفكرة، ألا أفعل ذلك، وأبدل هذا النشاط، بمتابعة مقطع في يوتيوب عن الفيديو الذي طلب الغرب ترجمته؟ أو أخرج مع أصدقائي، وأستمتع بصحبتهم بدلًا من معاركة الحروف، والفقرات، والمصطلحات؟
ولكن الكتابة -كما ذكرت في مقال لي- تشيّد متحفًا عن حياة الإنسان، متحفًا لشخصياته المتعددة، ودوافعه المدفونة التي نسيها، إنها ملفّه الأمني، والنفسي، والاجتماعي، ما صَدَقَ فيه، وما كَذَب عنه، إنها كطفلِ العائلة الذي عَرَف سرًا من أسرارك، فأخذ يمطّ لسانه بها أمام والدك ووالدك مهددًا ومبتزًا، منتظرًا منك أن تقول: how much؟
لذلك قد تكون الكتابة هي الشخصية الشريرة في حياتك، والتي كنت تظنها معك، لكن يأتي ذلك اليوم، وتلك اللحظة الصادمة التي تطعنك بقلمك في آخر مشاهد حياتك، وفي الحقيقة، وبالنظر إلى ما عايشناه في مواقع التواصل، فربما تكون تلك الطعنة في منتصف عمرك، أو أوله، فهي صاحبٌ خطير لا يمكن التنبؤ به، فعليك أن تحذر منه، وتحبه في ذات الوقت؛ لأنه قد يغشك ويوهمك بالكثير من الأمور، ويجعلك تعيش أجواء عظمته، فتحسب أنك على شي، وأنت لست على شيء.
الوقاية من غش الكتابة
لذلك قلت في تغريدة لي: «الكتابة أداة، قد تعرض عبرها جهلك بأسلوبٍ ساحر». ومن خلال تجربة المنتديات، التي درّبت شعوبَ العالم على تحسين الكتابة، كما لم يفعله مُعَلّم الخط، والإملاء، في سنوات خلت، رغم عصاه التي لقّبها بلقبٍ يليق برجل عصابات مكسيكي، ورغم درجاتك التي كان يحملها المعلم والطالب وولي الأمر وحارس المدرسة وبائع المقصف والجيران.. محمل الجد، وجعلت -أي المنتديات لا العصا!- من الكثير نجومًا مشهورين، كما لم يفعله الفن، ولا الرياضة، لو أن ذلك العالم استمر على حيويته، ولم يحصل له الهولوكوست الذي ذكرت قصته في مقالي هنا في زد: [ م.ح ].
أقول: من خلال تلك التجربة علمنا أن الإنسان يستطيع أن يصل لحالٍ يرتضيها كتابةً وأسلوبًا وإملاءً خلال بضعة أشهر إلى سنة من شغفه بالكتابة، ثم الاستمرار بالتدرب عليها في تلك الورشة الكتابية الضخمة المسماة بالمنتديات، وكم من مراهق داخل المنتديات من عالم [ قسم التسالي والفرفشة ! ]، وانتهى ليكون مشارًا إليه كأستاذ من أساتذة القلم في زماننا.
ولكن كما ذكرت، هي أداة، ووعاء ناقل، كل ما في الأمر أنك كنت تنقل معانيك بألفاظ ساذجة كأكياس بقالات الحي الرخيصة -ولا تسألني إذا قرأت مقالي السابق، لماذا أكثر من التشبيه بالبقالات، لأنها قصة طويلة-، ثم بالتدريب مع التأثر بمحيط تلك الورشات الكتابية يتحسّن أسلوبك، وتستحضر الكثير من الصواب فيما تكتب، وأعني صواب الكلمات والألفاظ والأساليب، لكن التمكن من الكتابة من هذه النواحي، يغش الإنسان ويوهمه بأنه يعرف، وهو لا يعرف، فيقع في فخ التعالم والتلبّسُ بما لم يُعطَ، وارتداء أثواب الزور المزركشة بالوهم، لأنه لم يمتلك ما تقتضيه إجابة السؤال التالي:
ماذا تنقل؟ وكيف يلتقط الكاتب أفكاره؟
وهذا يعود لثلاثة أمور لا رابع لها، ولا حتى الشيطان:
الأول – رأس المال: وهو القراءة، وأعني بها قراءة المطولات من الكتب والأسفار، أو ما هو دونها مما يدور في دائرة اهتمامك، لا يهم في أي زمن تبدأ هذا الأمر، فهو نافعٌ في كل زمن، صحيحٌ أن من وُفِّق لقراءات مبكرة إنسان مغبوط، وسابقٌ لمجايليه بمراحلٍ سيمُرُّ عمرهم كله لن يحصلوا ما حصّله في تلك القراءات المتقدمة زمنًا.
ويزيد نفعها إذا اجتمع فيها ميل النفس لاتجاه معين، مع تركيزٍ وعدم التفات لبنيّات الطريق، و(بنيات الطريق) في عالم القراءة أقصد بها ما يشتّت عن خط سيرك فيها ولو كانت قراءة أخرى؛ بل لو كانت قراءة أخرى في مطوّلات ليست من ذات التخصص والاهتمام، وهو ما يصطلح به في أيامنا بمسمى (التركيز) في معناها التدريبي المنتشر.
وقد قلت في مقال سابق لي: إذا أردت أن تكتب صفحة فاقرأ ألف صفحة. صحيحٌ أن هناك جملة منتشرة بذلك، لكنني غيرت (مئة صفحة) إلى (ألف صفحة)، وبذلك صارت جملتي، ومن لديه اعتراض يتحدث مع محاميّ، ولا تجعلوني أضطر لنسبتها إلى غاندي!
على أية حال، وحتى لا نتشاجر هنا، هذا هو الأمر الأول، وفي الحقيقة هو المرجع الأساسي لكل كتابات حياتك، فالقراءة تمنحك الوعي، وتصنع في عقلك ماكينة لتوليد الأفكار بشكل مستمر، ويلتقط القارئ من الأفكار والخواطر حوله ما لن يرد في بال غير القارئ مهما كان باله صافيًا.
الثاني – الاطلاع العام: قبل عالم الانترنت كان الاطلاع العام لا يخرج عن قراءة الصحف والمجلات والميل قليلًا عن مسار قراءتك الأساسي نحو قراءات جانبية لا غنى عنها من باب ترويح النفس، ونفض الملل عنها، وأعظم فوائدها ترسيخ قراءاتك القديمة، وتذكيرك ما نسيت منها، فالاطلاع العام نوع من أنواع تكرير المواد الخام، حيث تجد من قراءاتك إسقاطات عامة على ظروف مختلفة، وزمانٍ متبدل، وهذا يمنحك موادًا كثيرة ومتجددة تكتبها انطلاقًا من هذا الخليط من القراءة في المطولات، والإطلاع، بلا انقطاع، وهذا هو الفرق الذي يجعل بعض الأكاديمين رغم كونه شاطرًا في تخصصه، وبذل جهدًا استحق فيه درجته الأكاديمية، إلا أنه قد دخل مبنى جامعته، وصارت كالضريح لهمّته وعلمه، ومن كَتَبَ منهم، كانت كتابته رتيبة ومملة، يَظهر لك من خلالها أنه لا زال يكتب بعقلية الطالب الذي يذاكر ويدرس، وتُظهرُ لك كتاباته أنه لا زال يتعامل مع الورق كنموذج للامتحان، يحلّ فيها إجابته، بل إنه لّما يزل قابعًا في كرسيه داخل قاعة الامتحان، مقارنةً بمن تأسس بدراسته، وانطلق منها بتوسعٍ لينفخ الروح في الحياة العلمية والثقافية داخل جامعته ومُحيطِ تأثيره عمومًا.
الثالث – التأمل: وكان باستطاعتي أن أعنون هذا الأمر بـ (كن نبيهًا) لكن هذه الكنكنة كثرت في زماننا.. مع أنه زمان المعترضين والمعاندين.
وحين أقول (تأمل) فالمقصود به الالتفات النافع في يومك وليلتك، لك أن تشبّه التأمل بسنّارة الصيّاد، أو فخاخه، ومع أن هذه الأبيات مستهلكة في جيلي، لكني أؤمن أن المعلومة يجب أن يتكرر لأن الأجيال تتجدد، فإن مرت عليك، فهناك من لم يعلم بها، وستنال إعجابه كما نالت إعجابنا، يقول الشاعر: العلم صيدٌ والكتابة قيده *** قيّد صيودك بالحبال الموثقة. أما العلم والكتابة، فقد تحدثت عنهما، وأما الحبال، فهو التأمل، والالتفات، والنظر بعين الناقد، والواصف.
إذا كان للحكمة تدريبًا ما، فهو التأمل بلا شك، لأنه الأداة التي تمزج العلم والكتابة بالواقع والتجربة، وهو السرّ المكنون الذي يؤدي لأن يختار إنسان الخطأ والباطل، وآخر يكون من أهل الخير والحق، ونتيجتها (الرأي) بل و(الاعتقاد) في كثير من الأحيان، والذي يصل بالإنسان لأن يبذل له نفسه.. وماله. مهارة التقاط الأفكار، وحيوية التأمل، هي التي تُبقي قلمك حيًا، وبدونها سيُحْكَم على قلمك بالموت، وياما في سجن العقول من مظاليم الأفكار والمعلومات والقراءات، والتي حُبست في أجسادٍ لا ينقصها القراءات الموسعة، ولا الإطلاع العام، لكنها لا تلتفت.. ولا يهمها أن تلتفت، ومع الأيام صارت لا تقدر، وتحول صاحبها إلى أرشيف لملفات علا عليها الغبار لعدم الاستعمال، أو كمتحفٍ لا يزوره إلا مالكه!
فِخاخ الطاقة
لا يعني كوني أعفيتك من مصطلح (كُن) في الفقرات الماضية أنني لن أستورد مصطلحات زماننا، ففي هذه الفقرة سأستورد هذا المصطلح، لأنه يخدم فكرتي. كتبت في زمن مضى، بعد تلك الهجرة الجماعية للسعوديين من فيسبوك لتويتر، وقد كنت غاضبًا وقتها، لأن الفيسبوك يسمح لك بكتابة المطولات، عكس تويتر، وقد كنت غاضبًا أساسًا من الهجرة السابقة لها من المنتديات ثم المدونات إلى الفيسبوك، لكن كما قال الأول: رُبَّ يومٍ بكيت منهُ فلمّا *** صرت في غيره بكيت عليه
قلت -بعد أن صُدمت بكون تويتر يسمح لـ ١٤٠ حرفًا وقتها، ولم تكن خاصية زيادة الحروف، ولا سلسلة التغريدات متوفرة وقتها، ولسنوات كذلك-: أن واحدنا كان يدخل المنتديات ولديه فكرة معينة، وبما أن المساحة فسيحة في المنتديات فإنه يتوسع بفكرته ويتجاوز بها الأفكار الأساسية إلى المزيد منها ومن التأملات الفرعية، لذلك كان الدخول اليومي للمنتدى، إذا أحسن الإنسان انتقاءه طبعًا، جولةً فكرية وأدبية، تجاوزت في بعض المنتديات الراقية نفع الصحف والمجلات.
ولكن الإنسان في زمان تويتر يحمل ذات الفكرة، لكنه يجد مساحة ضيقة والعياذ بالله، لا تكفي لكتابة عنوان من عناوين المنتديات فما بالك بفكرة، وقد توقعت فشله، لكن هذا الموقع روّض الناس ترويضًا عجيبًا، وهدم الكثير مما بنته المنتديات من أقلام ومواهب حاولوا في هذا العالم الجديد، وطال عليهم الأمد، فتململوا وعادوا لحالهم قبل زمن الانترنت كله، كمتفرجين على المشاهير، وغير فاعلين إلا في أمور الترفيه، و(الطقطقة!). وصار الواحد يكتب تغريدة في تويتر هي عصارة فكرة مطولة في رأسه، والفخّ هنا، أنها تمنحك ذات الرضا تمامًا الذي كنت ستنالَهُ فيما لو كتبتَ في هذه الفكرة مقالًا، وهكذا يضيع عمر الكثير من الكتاب وهم يغردون بأفكارهم دون أن يمنحوها حقها من المساحة. والمصيبة ليس فيمن تأسس في المنتديات والصحف قبل هذه التطورات، وإنما الإشكالية في جيلٍ أفاقَ وعيهُ وعِشقه للكتابة على هذه النمط المحدود، والقيود المشددة على الإبداع.
بطيءٌ في عصر السرعة
وأثبتت هذه التجربة أنه حينما تقدح الفكرة في بالك، تستطيع أن تعبر عنها بجملة، وتستطيع أن تعبر عنها بمقال، وأحيانًا تستطيع أن تعبر عنها برواية أو بحث، فالأمر عائدٌ لكونك تستسلم لفلسفة عصر السرعة والتي وصلت بالبعض إلى الانحناء أمام عواصفه، بل والتوصية بقتل قلمك، وقصقصة تأملاتك، والاكتفاء بكتابة (تغريدات) لأفكارك.. وتكفيها، ونال هذا الأمر استحسان فئات، حتى مر زمان، كانت رفوف معارض الكتاب عبارة عن تغريدات مجموعة، ولا أخفي تقززي منها وقتها، وشعوري بالأسف وأنا أتصفح بعضها فأجد كتابًا كاملًا يجمع أفكارًا ناقصة وغير مكتملة، ودخل الكثير من الباطل وسوء الفهم والجرأة من هذا الباب العجيب.
لذلك أعلن انسحابي من وعدي بعدم الكنكنة، لأقول لك: كُنْ بطيئًا في زمان السرعة. ولهذا السبب لم أخف بهجتي كما ذكرت في مقالي [ م.ح ] عن هذا الغزو من المنصات، وهذا الإكثار من المقالات الطويلة، ولا يهم أكان الكاتب يستعرض لنا بضاعة تجارية، أو يكنكن كثيرًا، المهم أن الكتابة المطولة قد عادت، وعاد قراؤها، وهذا والله فرجٌ بعد شدّة.
امتحن عقلك
من الجُمَل التي غيرت حياتي الكتابية، وقد كنت أتمنى منذ مراهقتي أن تمر علي هذه الجُمَل التي يزعم الناس أنها تغير حياتهم، وقد حصل مثل هذا لي مع ما قاله العقاد لتلميذه أنيس منصور (والعهدة عليه كما ذكرها في كتابه عن أيامه مع العقاد) حين سأله -إن لم أنس سياق الإجابة- عن سبب اقتحامه بعض المواضيع، حيث أن مؤلفات هذا الأديب تنوعت ما بين رواية، وفكر، وتاريخ، وفلسفة، وتحليل، فكان جواب العقاد إنه: «أراد أن يعرف حدود قدرته العقلية».
وقد قلت في مقال لي بعنوان الطفل المؤلف ردًا على هذه الإجابة الملهمة لهذا الأديب والعالم: «هذا الرد عجيب، فهو يرى أن الكتابة والنشر وسيلة من وسائل معرفة الشخص لقدرته، وتقييمه لها، كما يقول أحد الأدباء: لابد من أن يكون هناك أناس آخرون، نعرف بهم أبعادنا طولًا وعرضًا وعمقًا. إذن.. إنْ تعامَلْنا مع النشر على أنه وسيلة للتقويم، وليس مجرد وسيلة للتعليم؛ فمن حقّ هؤلاء أن يتخذوها لتجربة أنفسهم ومعرفة حدود قدرتهم العقلية والعلمية بالنظر إلى انطباع الناس وردودهم على مؤلفاتهم».
من حقك أن تُجرب نفسك، وتمتحن عقلك، هذا حق أصيل لك، ومن حق الناس أن يُعجبَوا بما تكتب، أو يعلقوا بالنصح والانتقاد، أو يدعوك وما تكتب ما دام أنك لم تتجاوز ثابتًا أو فضيلةً أو تحث على شرّ محض. ولا يهم أكانت هذه تجربة بعد سنوات من القراءة والاطلاع والتأمل، أو لمعرفة آثار تدريب أسبوع واحد، فالنتيجة واحدة، وقد منحنا الله نعمة الانترنت لتجرب نفسك فيها، وتنشر فيها، وترى ردود الناس فيها، دون أثقال اجتماعية. وقد ألهمتني جملته تلك فجعلتني أكتب رواية كانت تدور في نفسي عن الرهاب الاجتماعي، نظرًا لقراءات لي في علم النفس، لكني كنت أتردد وأخاف أنني أقتحم الصعاب، وأتعالم، ولفظة (التعالم) هذه تسبب هلعًا لمن يستغرق في القراءة عنها.
وقد وجدت ثناءً، ووجدت نقدًا، والأكيد أن الجاحظ وأدباء العصر الحديث، وروائيي العالم، لم يخرجوا من قبورهم كزومبي جائع للحمي، ويقتحموا بيتي، ففي النهاية أنت قد جربت عقلك، وامتحنت قلمك، ولن يتردد الناس في نقد ما كتبت، ودونكم مراجعات goodreads ونحوها من مواقع التغذية الراجعة كما يسمونها.
ثق بمقولك
حسنًا، أنا أستسلم أمام صيغ الأوامر في مثل هذه المقالات، لها لذة عجيبة، لذا: المجد للكنكنة! سأكون أكثر جرأة في حث الكتاب، وأعني بهم الكتاب الذي لهم رصيد لا بأس به من القراءات، والإطلاع، والتأمل، ولسنوات، أعتقد أنه حان الوقت لكم لتثقوا بمقولكم، وجُملكم، وتراهنوا على أقلامكم ومصطلحاتكم. تحوّل الاقتباس من خادمٍ لفكرة الكاتب، وشاهدٍ على أسلوبه، إلى قناع تختبئ خلفه شخصية الكاتب الضعيفة، وغطاء يتستر به من خجله وتواضعه المبالغ فيه أمام قراءاته، وقد مرّ عليّ دهاة في الأفكار، واللغة، انطوت صفحات شبابهم ولا يزالون يرون أنهم بعيدون عن أن يكونوا أكْفاء لدرجة إنتاج شيئٍ ذي بال، وإذا أرادوا الكتابة تذكروا أنهم لن يكتبوا مثل الجاحظ، ولن يمتلكوا أسلوب الرافعي، ولن يحصلوا على نوبل كنجيب محفوظ، ولن تُتَردد جملهم كمقولات غازي القصيبي وجبران خليل.. وغيرهم، فينقطعون عن البذل مع استمرارهم على قراءات لا زكاة لها.
وهذا ضعف وخور لا يليق بالكاتب، ما دام أنك قد اقتحمت، وتدربت، وقضيت سنوات تبذل زهرة عمرك وجهدك لهذا المجال، فلا عليك إن وثقت بجُمَلِك وعباراتك، وجعلت الاقتباسات كالملح في الطعام، ولا عليك إن لم تقتبس واكتفيت بتأملاتك وصياغتك حول الموضوع، ففي النهاية، تلك الاقتباسات تأملات شخصية لأصحابها، ليست وحيًا، ولا دستورًا، ولا نظامًا تم التصويت عليه، ولن يغزوك أدباء الدنيا ومفكريها كأنهم زومبي خرجوا من قبورهم ليلتهموك على ما اقترفت يداك.
الكتابة على السجية
وهذا ما أقوم به، الانحدار مع السياق يمنح كتابتك شخصيتك وحياتك وهمومك وبديهتك، أما التوقف عند كل سطرٍ بحجة البحث والإطلاع فيخفي كل ذلك، ويميت شخصية الكاتب، وأنا أعرف أنني أتحدث في مجال يختلف فيه الناس، ويعود لذائقة الكاتب، والقارئ، ولكن نظرتي للكتابة تفوق المعلومات إلى الحياة التي خلفها، والفكر الذي مرت به، والعقل الذي خضّها من شخصية صاحبها وحياته وأفكاره وروحه وسلوكه. ولو تأملت معي كتب العظماء الخالد نفعها ليومنا هذا، لوجدت أن أهمّ سمة تميزها بروز شخصية الكاتب، بل إنك إذا قرأت سيرة حياته، ثم اتجهت لكتبه مهما كان غارقة في تخصصه الذي تأسس فيه، ستقرأ بكل سهولة سيرته بين أسطره، بل ستقرؤها بكل عاطفة وتأثر، فكل أحزانه وأتراحه وخطوط الاشتباك في معترك حياته منتثرة في ثنايا الكلام، ومن خاض بحر القراءة شهد معي على ذلك. فلا تحرم القراء منك، وإلا كانت الكتب نسخة علمية أو ثقافية أخرى، ربما حوت إضافات وتعقيبات، لكنها لا تنفصل عن جماد الورق وحدّية المعلومات.
الوعاء الناقل
إن أكثر ما يَهلك عنده أصحاب الهمم والرغبات الثقافية والسائرون في طريق تنمية الذات؛ الوقوف مطولًا عند الوسائل، والتخشّب أمام الكيفيات. ليس معقولًا أن يقف الإنسان مطولًا عند أسئلة: (كيف)، ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى كأنه لم يقرأها أول مرة، إنّ المكتبات مليئة بالكتب والمؤلفات التي تقول لك: (كيف تقرأ؟)، ومواقع التعليم عن بعد والدورات التدريبية مزدحمة بورشات الكتابة التي تقول لك: (كيف تكتب؟)، والمواقع والمدونات مكتظّة بالمقالات والنصائح والإجابة على سؤال: (كيف؟ وأين أنشر؟).
وهذه الأمور يستطيع الإنسان أن ينتهي من معرفة توجيهاتها في يوم أو يومين، وليس وراء ذلك إلا ترداد المعلومات في كتب ومقالات ومواقع أخرى، فيدخل الإنسان في دائرة مفرغة من الخطوة التالية، ويدور حول نفسه لسنوات، حتى يجد لذة خاصة بالقراءة عن الكيفيات، يكاد لا يغادرها لسواها، وهذا مُحرق لأوراق العمر، ومذهبٌ لطاقات الإنسان. إذا لم تنتقل للخطوة التالي من فورك، ستتأخر كثيرًا، وتصيدك حبائل التسويف، والعبث بمسيرتك. قد علمت كيف تكتب، واطلعت على ما يسبق الكتابة من قراءة واطلاع وتأمل وتهيئة، فابدأ، والوسائل في الشبكة لا تعد ولا تحصى.
هذا موقع بلوجر، والذي يضمن لك مدونة لا تحتاج منك إلا التسجيل والمرور على الإعدادات، وتهيئة التصميم (ويوجد تصميمات جاهزة في الموقع، أو تجد ما هو أفضل على الشبكة على أن تكون تصميمات حديثة، وهذه تصل إليها عن طريق تحديد أوقات حديثة في محرك البحث)، تخلص من إعدادات التأسيس في يوم أو يومين، ثم تابع مقطعًا أو مقطعين حديثين في يوتيوب يشرحان لك هذه المنصة.. واكتب.
لا استضافة بثمن، ولا دومين مدفوع، ولا اشتراطات كثيرة تحتاج إليها في منصات أخرى كووردبريس وغيرها. وهذه المنصات الكتابية الحديثة التي بدأت تغزو الانترنت، وهي أشبه بالتعاقد المتبادل الذي كان موجودًا وكنا نهنأ به في المنتديات وخلاصته: أنت أبدع، ونحن نضمن لك الجمهور. عكس عالم مواقع التواصل الذي لسان حاله: من أنت أيها النكرة؟ روح اشتهر؟ واضمن استمرار شهرتك، وتفاعل متابعيك، وسنرى أمرك.. يا ضيعة العمر! وهذا موقع زد الذي أنشر فيه مقالي هذا يضمن لك الجمهور، بالإضافة إلى ما تقوم به من جهد ذاتي في نشر مقالك، والمواقع الشبيهة كثيرة، لكني ذكرت أفضلها هنا، لجمال تصميمه، وجدية عناوينه.
فالمقصد ألا تضيع وقتك في أمور وتفاصيل تهيء للكتابة، لكنها لا تجعلك تكتب، بل تؤخرك، فالبعض مثلًا -كحالي- يحب تقييد الأفكار في دفاتر الملاحظات، ثم نما عالم التطبيقات، وصارت هناك الكثير منها تقدم هذه الخدمة، وبدلًا من أن يستقر الإنسان من فوره على تطبيق معين، تجده يتجول في عشرات المواضيع والمقاطع حول أجود تطبيقات الملاحظات والتنظيم، ولا أخفي أنني وقعت في هذا الفخ يومًا، فوجدت غالب التطبيقات جميلة وتقدم الخدمة، وفي الحقيقة، استغنيت عنها كلها، واكتفيت بفتح ملف جديد في تطبيق الملاحظات الأساسي.. وأدى الخدمة وزيادة!
الربح من الكتابة
وقد تسارع التنمية في الإنترنت حتى وجد للكتاب مجالًا للتربح فيه من كتاباتهم، فمنصة بلوجر، التابعة لجوجل تضمن لك الجمهور من أمّها ومالكتها إذا ضمِنت الكتابة الأصيلة في موقعك، والتي تجذب اهتمام الناس، ويبحثون عنها، ولا يخرج عن اهتماماتك، وهذا يكاد يكون موجودًا في كل فن، فلا تجد شيئًا في هذه الحياة، إلا وستجد من يبحث عنه، مهما كان غريبًا أو حتى شريرًا، لكن لا تكن شريرًا!
هناك بعض من منصات النشر المباشر التي تدفع بسخاء، لكنها للأسف لا تخلو من الأجندات السياسية عند بعضها، فلا يجتمع أن تكتب فيها دون أن تردد مصطلحاتها ولو مع الأيام، أو تستقل بالرأي عن فريقها.. وهذا شأنهم. وقد كتبت سابقًا إجابة على سؤال أحدهم: «الكتاب يعانون في العالم العربي، والجهات التي تجعل من الكتابة مهنة لا زالت تزحف زحفًا وليس وراءها مطمع يجعل الكتابة أسلوب حياة، وبحاجة لتكاتف الكتاب والمؤمنين بهذه المهنة من رجال الأعمال لدعمها، وبحاجة إلى مبادرين يفتتحون المزيد من الحاضنات ووسائل النشر الاحترافية بعقلية استثمارية، حتى نقترب ولو قليلًا من النعيم الذي يعيشه الكاتب في كثير من الدول المتقدمة في هذه الناحية»
لكن إذا صرفنا النظر عن مواقع النشر، وتوسعنا في مجال الكتابة فهناك منصات احترافية تسهل فتح المتاجر لقلمك، أو تمنح قلمك فرصة لإبراز نفسه بل وفرضها، مع الاستمرارية والجدية، مثل موقع خمسات، والذي يساعد أصاحب الأعمال الصغيرة والمتوسطة في مجالات الكتابة والتسويق والأخذ بيد أصحاب الأعمال الصغيرة، فهو المعنيُّ بفكرة فتح المتجر، وموقع مستقل وهو الذي يجد فيه الكاتب أصحاب الأعمال الذين يبحثون عن الأقلام ويدفعون بكرم، وبوضوح في التعامل في وساطة الموقع ونسبته من العروض، بلا ألغاز ولا تعقيدات، أبدع وكن ملتزمًا وجادًا والناس ستدفع، ولعل هذين الموقعين، وبالذات مستقل هما الشرارة والأمل، فمن النادر جدًا أن تجد موقعًا يكون المال لغته، وتكون الكتابة قسم من أقسامه، ويكون متفاعلًا؛ لأني -واعذروني على عدم التفاؤل هنا- مُحبَطٌ مما آلت إليه مهنة الكتابة في العالم العربي حين اطلعتُ بسبب هذا الوسيط المسمى بالانترنت على عالم الكتابة في الأمم الأخرى، فتذكرت ذلك السائح العربي الذي راسل صديقه قائلًا: أنا في الجنة يا عبدو! إنه لمن المدهش ما يمكن أن تصل إليه المهن والمواهب من احترافية، لكنها تحتاج لمبادرين صامدين يبحثون عن أمثالهم.. ويقتحمون هذا المجال وينفخون في روحه.
كان مجال الكتابة صاعدًا بقوة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وأقصد في عالمنا العربي تحديدًا، لكن جاءت هذه اللعنة المسماة بمواقع التواصل فعملت لهذا المجال سوبليكس خلفي أعاده إلى نقطة الصفر، بل أحط منها، وما يجري الآن من صحوة، إنما هو الميت الذي استعاد الطبيب نبضه، وقد يموت مرة أخرى إذا لم يتشبث الكتاب بأقلامهم ويحفظوا هذه الوصايا.
كيف تكون أكثر إنتاجية؟
وأنا بوضعي لهذا العنوان صرت ككهل أربعيني وقعت على قناة له في يوتيوب، غير مشتهرة، ويبدو أنها في بداياتها، وقد خصصها لمجال الألعاب الإلكتروني، ولاحظت أنه يريد اقتحام أجواء المراهقين والشباب بمصطلحاتهم التي يرددونها في مقاطعهم وقنواتهم، وصيحاتهم، ومحاولات كل واحد منهم للقيام بإنجاز زماننا(!)، وهو أن يعمل حركة أو مقولة تتداولها الآفاق كردة فعل (رياكشن)، وفي الحقيقة لم أستطع إكمال مقطعه، حيث جاءتني تلك الحالة من سخونة الوجه والرقبة، والخجل نيابة عن الشخص الذي أمامي، فما بالك بالشعور بالخجل من شخص يقلد أساسًا فعلًا آخر مثيرًا للخجل. لذلك أرجو ألا أكون قد قمت بذات الأمر هنا.
هذا المصطلح يجمع معاني: المحاولة، والبذل، والتهيئة، والالتزام، وهو أمر جميل، وطريقة ذكية لجمع المعاني، ولكن أحيانًا ألاحظ أهم عنصر في الإنتاجية، والذي أعتقد أنه هو الخطوة التي تفرق بين المدّعين، والملتزمين، وهي: البدء.
إن القراءة عن الإنتاجية، لها ذات تأثير القراءة عن الكيفيات، وأرى أنها قراءة تحق لمن بدأ أساسًا، فهو يحفز نفسه، ويجدد وعيه، باستحضار هذه المعاني الدافعة للبذل، أما أنك لم تقم بالخطوة الأهم من كل ذلك، وهي خطوة (البدء)، فلا علاقة لك بهذا المصطلح، وتصير كمن يقرأ عن النجارة وهو لم يحرك يديه للتدريب بها فضلًا عن العمل. هناك أجوبة بسيطة لكل أسئلة التهيئة؛ فغالب الناس يعرف كيف يبحث عن المعلومة، وقد كان البحث قديمًا لا يستطيع القيام به إلا صاحب قراءة سابقة يتذكر أين المعلومة، أو باستشارة من هذه صفاته، واليوم نعرف جميعنا سهولة البحث، ومن لم يعرف، يدرك جيدًا أنه إذا بحث عن كيفية البحث عن المعلومة.. سيجد دهاةً أخفياء يخبرونه في دقائق قليلة عن ذلك.
إن القراءة عن التهيئة والإنتاجية، وما ذكرته من تجول في الكيفيات، تعبر في النهاية قراءة جادة بلا شك، لكنها عند البعض، وأخشى أن أقول الكثير: (هروبٌ) من الالتزام، إنني أشبهها بالكتب التي يعشقها الطالب فجأة ليلة الاختبار، ويقرأها بنهم، وقد علا عليها الغبار قبل هذه الليلة فترة طويلة.
إذا أردت أن تكون أكثر إنتاجية فابدأ بِعُجَرِكَ وبُجَرِك، من طلب كمال التهيئة، وتمام الاستعداد للبدء ومعرفة الكيفيات، فلن يبدأ لا اليوم، ولا غدًا، وستبهره الحياة، ويذهله القدر بحزمهما في تطبيق سنن الله على البطّالين المدعين، فخيالات اليقظة لن تؤلف له كتابًا، والقراءة لنصائح المنتجين اللذيذة لن تجعله منهم، بل سيكون بعد سنوات في مكانه الذي هو عليه الآن، يقرأ عن المقدمة، والموضوع، والخاتمة، والأفكار الرئيسية، ومواقع النشر، وكيف يربح.. دون أن يخطو خطوته الأولى، وكل مقال للكاتب يعتبر خطوة أولى. وبهذا تنمحي سِيَرةً ذاتيةً أخرى -كانت لتكون عظيمةً- في سطورها الأولى.