لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
لا شك أن كل منا يعلم أن الحضارة اليونانية قد ساهمت بشكل كبير في شتى أنواع المعرفة، وكان علم الصيدلة أو علم التركيبات الدوائية من ضمن العلوم التي اهتم بها علماء اليونان؛ حيث وجدنا عالم يوناني يدعي ديسقوريدس قام بتأليف كتاب في علم التركيبات الدوائية أسماه: “المادَّة الطبيَّة في الحشائش والأدوية المفردة”، ولكننا لم نجد أية إسهامات أخرى من الحضارة اليونانية في هذا المجال، بل وجدنا العديد من إسهامات الحضارة الإسلامية، فنجد أن الصيدلة كانت من العلوم التي جذبت عظيم انتباه علماء المسلمين، وأخذوه في بداياتهم له عن اليونان، ومن هنا بدأت الحضارة الإنسانية تعرف المركبات الدوائية، وسوف نتحدث في هذا المقال عن إسهامات المسلمين في علم الصيدلة.متي ظهر الاهتمام بعلم الصيدلة والتركيبات الدوائية عند المسلمين؟
في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين
ذاع صيت بعض علماء الدواء في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان من أشهرهم:
- الحارث بن كلدة: وهو من الطائف، وكان يجول البلاد من أجل تعلم فن صناعة الدواء، وقد تعلم علم الدواء بفارس، وعاش لفترة طويلة بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد عاصر كلاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ — رضي الله عنهم — ومن أهم أعماله كتاب المحاورة في الطب، بينه وبين كسرى أنوشروان.
- النضر بن الحارث: ابن خالة النبي – صلى الله عليه وسلم – تعلم هذه المهنة من أبيه وجاب البلدان ليستزيد من العلم والمعرفة في هذا المجال.
- ابن أرمثة التميمي
- ابن بحر الكناني.
- كان في عهد النبي أيضًا النبي أحد قساوسة الإسكندرية ويُدعَى “آرون”، كان من أهم أعماله أنه جمع من بين مؤلفات الإغريق حوالي ٣٠ كتابًا، وقام أحد اليهود بترجمتها إلى السريانية، ثم ترجِمت إلى العربية بعد ذلك حوالي عام ٦٨٣م.
في عهد الدولة الأموية
ظهر في أواخر هذا العصر جابر بن حيان عام ٧٥٠م، وهو أبو الكيمياء عن العرب. وترجم خالد بن يزيد في أوائل القرن الثاني للهجرة كتابًا في الكيمياء عن مدرسة الإسكندرية.
في عهد الدولة العباسية
اهتم الخلفاء العباسيين بالعلم والعلماء اهتماما كبيرًا حتى بلغ العرب أيام الدولة العباسية أوج عظمتهم العلمية، وكان لعلم الصيدلة نصيب كبير من اهتمام الخلفاء العباسيين، وكان لهم جهود كبيرة في رعاية هذا الصنف من العلوم أهمها:
جهود هارون الرشيد
- أسس هارون الرشيد المستشفيات والصيدليات العامة في مدينة بغداد، وكانت هذه الصيدليات تتنج بعض التركيبات، فنجد أن هارون الرشيد قد أرسل عام ٨٠٧م إلى شرلمان هدايا كثيرة من إنتاج الصيدلية التي أسسها في بغداد، منها البلاسم والمراهم والأدوية والعقاقير المختلفة.
- وقد أصدر الرشيد أوامره إلى صابر بن سهل ان يقوم بوضع دستور للأدوية والمادة الطبية، فوضع بذلك قانونًا لمراقبة أصناف الأدوية وأثمانها مراقبةً شديدة.
- وكان من أشهر من اشتغل بمهنة الصيدلة والعقاقير في ذلك الوقت آل يختيشوع، وهم من علماء السريان، وكان عميدهم جورجي يعمل في خدمة الخليفة المنصور، ثم خدم ابنه جبريل بن يختيشوع الخليفة هارون الرشيد.
جهود المأمون
كان المأمون دائمًا ما يرسل العلماء للبحث والتنقيب في الكنائس والأديرة عما خلفه العلماء من العلوم، وكان هؤلاء العلماء يجبون البلاد، فذهبوا إلى القسطنطينية والهند وفارس، وجلبوا معهم خير نفائس العلم في ذلك الوقت. ومن أشهر الصيادلة الذين ذاع صيتهم في ذلك الوقت “يعقوب بن إسحاق الكندي”، صاحب كتاب الترفق بالعطر، أو في كيفيات العطر والتعميدات، وقد افتتحه بصناعة المسك والعنبر، ثم تقطير المياه مثل ماء الورد والصند وغيره، ومن حسن الحظ أنه يوجد من هذا الكتاب نسخة فوتوغرافية من أجمل ما يمكن موجودة في دار الكتب.إسهامات العلماء المسلمين في علم الصيدلة
1.إسهاماتهم في الترجمة والتأليف
- قام العلماء المسلمين بترجمة كتاب ديسقوريدس عدة مرات؛ أشهرهما اثنتان: ترجمة حنين بن إسحاق في بغداد، وترجمة أبي عبد الله الصقلِّي في قرطبة، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بالزيادة على هذا الكتاب، واستدراك ما فات ديسقوريدس.
- كما قاموا بتصنيف عدة كتب في الصيدلة وعلم النبات، كان من أشهرها:
- “معجم النبات” لأبي حنيفة الدِّينَوَرِي،
- “الفلاحة النبطية” لابن وحشية،
- “الفلاحة الأندلسيَّة” لابن العوام الإشبيلي.
- وكان من ضمن الكتب الهامة أيضًا (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية)، لابن البيطار؛ وقد وصف فيه نحو ألف وخمسمائة عقار طبي؛ وذكر طريقة استعماله، وجعلها مرتَّبة طبقًا لحروف المعجم ليَسْهُل الرجوع إليه.
- وكتاب (الحاوي)، للرازي؛ وهو موسوعة من عشرين جزءًا، يبحث في كل فروع الطب والكيمياء، وكان يدرس أيضًا في جامعات أوربا، بل إنه كان أحد الكتب التسعة التي كانت تدرس بكلية طب باريس. وكانت هذه الكتب بمثابة مرجعًا لمن جاء بعدهم من المصنفون في علم الأدوية.
- كما صنفوا المعاجم ولعل أشهر ما وصل إلينا ما صنفه رشيد الدين الصوري على هيئة جداول، تحتوي على أسماء النباتات المختلفة باللغات العربية، واليونانية، والسريانية، والفارسية، والبربرية وتشرح أسماء الأدوية المفردة، أما عن منهجه في التصنيف؛ فكان يخرج إلى الأماكن الموجود بها النباتات ومعه رسام، فيشاهد النبات ويسجله، ثم يريه للرسام في المرة الأولى وهو في طور الإنبات أو لا يزال غضا، ثم يريه إياه في المرة الثانية بعد اكتماله وظهور بذره، وفي الثالثة بعد نضجه ويبسه، ويقوم الرسام بتصويره في جميع هذه الأطوار
2.إسهاماتهم في تحضير وتركيب العقاقير
- وفي عمليات تحضير العقاقير: استخدم الصيادلة المسلمون طرقًا مبتكرة، ظل بعضها معمولاً به حتى الوقت الحاضر منها:
- التقطير: لفصل السوائل.
- الملغمة: لمزج الزئبق بالمعادن الأخرى
- التسامي: لتحويل الموادِّ الصلبة إلى بخار، ثم إلى حالة الصلابة ثانيةً دون المرور بحالة السيولة.
- التبلُّور: لفصل بلورات الموادِّ المذابة.
- التكيس: عملية الأكسدة العادية.
- استطاعوا مزج الأدوية بالسكر وبالعسل.
- واستخدم الرازي الزئبق في تركيب المراهم لأول مرة، وجرب مفعوله على القردة.
- واستخدموا الحشيش والأفيون وغيرهما في التخدير.
- واستخدموا الكافور لإنعاش القلب.
- ووصفوا القهوة المطحونة كعلاج لالتهاب اللوزتين والدوسنتاريا (الزحار)، والجروح الملتهبة.
- وصنعوا الترياقات التي يتم تركيبها من عشرات وأحيانًا من مئات العقاقير.
- ويعود إليهم الفضل في اختراع الكحول، والأشربة، واللعوق، واللزقات، والخلاصات، والمستحلبات، واستعمال الأفيون والخشخاش في الجراحة كمخدر، وتركيب المستحضرات الطبية النافعة، كالأدهان مثل دهن الورد ودهن النرجس ودهن البيلسان، واستخدام المقطرات والمراهم، ومياه الشعير ومياه البذور، وأوجدوا المشروبات المركبة لتصفية المعدة وإخلاء الأمعاء، ويؤثر عن الأطباء المسلمين التداوي بالأغذية لتقوية الجسم على المرض، قبل اللجوء إلى الأدوية.
الرقابة على مهنة الصيدلة
في عهد الخليفة العباسي المأمون، ظهر عدد من مزاولي مهنة الصيدلة الذين كانوا غير أمينين ومدلسين، لذلك أمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة، ثم أمر الخليفة المعتصم من بعده (ت 227هـ) أن يمنح الصيدلاني الذي تثبت أمانته وحذقه شهادة تجيز له العمل، وبذلك نجد أن مهنة الصيدلة دخلت تحت النظام الشامل للحسبة، ومراقبة الأدوية من قبل الدولة، لأول مرة، وكان ذلك في عهد خلفاء بني العباس. وبذلك كان المسلمون أول من أنشأ علم الصيدلة على أساس علمي سليم، وأقاموا الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة. وقد انتقل هذا النظام إلى أنحاء أوربا في عهد فريدريك الثاني (607-648هـ/ 1210-1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الإسبانيَّة بلفظها العربي حتى الوقت الراهن.أقوال المستشرقين عن جهود علماء المسلمين في علم الصيدلة
قد أعترف كثير من علماء الغرب بالمكانة التي وصل إليها العلماء المسلمون في علم الصيدلة، فيقول جوستاف لوبون: "نستطيع أن ننسب بلا أدنى حرج علم الصيدلة إلى العلماء المسلمين، ونقول إنه اختراع عربي (إسلامي) أصيل". ويقول A. C. Wooton مؤلف كتاب معضلات الصيدلة عن العرب: "والعرب هم الذين رفعوا الصيدلة إلى مقامها الجديرة به".