لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
الإنسان ابن بيئته، هو يمثل ما فيه كيف ترعرع وكيف عاش، وأعتقد بأن ما يبرز في محيطي الذي فيه كَبُرْت هو الاهتمام بالضيف أو (بالآخر) بذلك الإنسان الذي يأتي نحوك لتقوم له بكل شيء حتى لا يشعر بالحياء والنَصَب، أو كما كان في السابق (الإعياء من وعثاء السفر) وهو اليوم مقام (الضيف) ذلك الشخص المقدس الذي لو أراد المنّ والسلْوى من مضيفه لهبطت عليه بمجرد أنه اختاره واشتهاه.وكيف لا نستشهد هنا بأيقونة الكرم العربي "حاتم الطائي" والذي قال في الضيف:أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ
وَيَخْصَبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ جَدِيبُ
وَمَا الْخَصْبُ لِلْأَضْيَافِ أنْ يكثر الْقِرَى
وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ
بل أبعد من ذلك فقد قرن الله محبته بمحبة الضيف فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال، قال رسول الله ﷺ: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصْمُت، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِم جارَه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضَيْفَه».في حياتي قبل أن أحظى بالوظيفة كنت أكثر مقاومة وشراسة في أن أكون حاضرًا هكذا مناسبات الخاصة منها والعامة، كنت أستثقل ركوب السيارة، ومقابلة الأشخاص، والالتزام معهم بوقت، كنت أعتقد بأنها تسحب من طاقتي، وتركيزي وذهني الكثير، تأتي لي تلك الأفكار بأن كل ما يحدث ليس إلا نفاقًا اجتماعيًّا أودّ الخلاص منه، والرجوع السريع نحو ما أحب، لأركل الكرة، أو ألعب ما يقع تحت يدي، أو أن أشاهد ما يملؤني بهجة وسعادة بدلًا من تلك التجمعات التي لا طائل لي في تحملها البتة.لم أكن أعلم بأن تلك الصفة كانت متشربة فيّ بالكلية، حب الآخر والانفتاح نحوه، ذلك حينما هاجرت حاملًا معي أحلامي وآمالي نحو ذلك المستقبل البعيد، خالطت العجم والعرب وممن هم يحملون نفس الجنسية، كنت ولا زلت أعاملهم بكيفية ما تربيت عليه منذ نعومة أظفاري، الكثير من المواقف كنت أقف أمامها مندهشًا فمثلًا في وظيفتي الأولى أقف متسائلًا لماذا لا نجتمع حول صَحْن طعام واحد عند حلول موعد أحد الوجبات الرئيسية؟ لماذا يختلي كل منا في زاوية ما كي ينال من وجبته ما يكفيه؟ بل ويرمي بزائده نحو القمامة؟أتذكر جيدًا حينما قمت بالدفع في المرة الأولى من صندوق حسابي المتعلق بالعمل لم أجرؤ أن أستلم مبلغًا واحدًا من أحدهم حياء، وقد كنت أصّر إصرارًا كبيرًا على عدم أخذ أيّ شيء منهم، لا زلت أتذكر الوجوم الذي أصاب وجوههم وكأن الذي حدث شاذًّا وغير معتاد، بل أتذكر عدم قدرتهم على الرد بطريقة مناسبة. فقط لأني كنت أعاملهم بعفويتي المتجذرة كرمًا بسيطًا لا يزن مثقال ذرة عمّن قدمت من أرضهم.مع مرور الأيام صِرت لا أكترث كثيرًا، بل تجرأْت بأن أطلب المبلغ المقصوص من حسابي غير عابئ بتلك الإكرامية التي كنت أقدمها في أول مرة، أن تأخذ حسابك يعني نظام "أمريكان" كما يقولون.هذا التصادم الفكري مع مختلف الثقافات أخبرني بأن العوز الشديد من هؤلاء البشر للمال هو شغلهم الشاغل، ولست أتكلم عن زملائي الموظفين فحسب بل عن منظومة كاملة تحاسبك منذ تعريف بصمتك، ومراقبة أدائك المالي، ويزيد على كل ذلك محاسبتك ومراقبتك عبر الكاميرات للسكنات والحركات، ومن غير الطبيعي ألا أتأثر بكل تلك المنظومة المتأصلة بجمع المال سلبًا.ولكن تبقى تلك العادة المتأصلة تعود من جديد لتظهر في المناسبات والأعياد، بمجرد جلب هدية أو ابتسامة أو حتى سؤال عن حال، يشبع لدي هذه الخصلة الدفينة والتي لم ولن تموت، أصبحت أكثر تقديرًا لها ولمعناها، فبعدما كنت لا ألقي لها بالًا حيث وُلدت، صِرت أكثر امتنانًا لها، بل إن هذا الامتنان انعكس عليّ بالضرورة كي أصبح أكثر تقديرًا للأشخاص ممن هم حولي، وذلك بكثير الزيارات وتفقد أحوالهم وشؤونهم الخاصة.محطتي التالية كانت أقلّ عزلة وأكثر اجتماعية تمثل قليلًا من بيئتي ونشأتي، وهذا غير مستغرب؛ لأنها في القطاع الحكومي بعد انتقالي من القطاع الخاص، ولكن المختلف هو تلك العادات المختلفة، في اللهجة، وتقدير الناس، وإكرام الضيف، كافة الأطياف تتعلم منهم مشاربهم، ولأن لدي تجربة سابقة لم تواجهني تلك الصدمات التي كانت تأتيني في وظيفتي الأولى بل أصبحت أقلّ حدة وتأثيرًا، تعلمت كيفية تقدير المواقف والأشخاص، ومعرفة أهميتهم في الحياة، بل أراجع نفسي بعد كل اجتماع مع أي شخص في إطار العمل أو خارجه، كيف سأتعلم منهم، ماذا لو لم أجتمع بهم، كيف بإمكاني اقتناص الفرص، والأفكار، والطموحات، والعلاقات بعد لقائي معهم؟ كل ذلك لمجرد أنك تحدثت مع خلفية وتجربة مختلفة وثرية تمنحك الكثير وتجعلك أكثر نضجًا وأكثر خبرة.في إحدى محاضرات "تيد إكس" (1) قامت الباحثة في علم النفس (سوزان بيكر) في طرح تساؤل عن علاقة الحياة الطويلة بالحياة الاجتماعية؟ سوزان بحثت في جزيرة (سردينيا) الإيطالية والتي تقع في المنطقة الزرقاء شمال البحر المتوسط والتي تشير فيها الارقام بطول أعمار أفرادها والتي تصل لما بعد المائة سنة، وقد أكدت بأن هناك علاقة متأصلة ما بين التصميم العمراني لهذه القرى الواقعة هناك بطول عمر أفرادها فهي المتداخلة فيما بينها، والتي تجبر سكانها على الاختلاط مع سكانها (الجيران، والعمال، والاطفال، وعابري الطرق… إلخ) العامل الجيني لطول عمر أفراد سكان جزيرة سردينيا لا يمثل سوى ٢٥٪ أما عن باقي الـ ٧٥٪ هي تعوّد على أسلوب الحياة في تلك الجزيرة بكثرة العلاقات بين أفراد سكانهم وذوبانهم فيما بينهم."جوليان هولت" هي الأخرى الباحثة من جامعة بيرمنغهام، بعد أن أعدت دراسة لمدة سبع سنوات شملت عشرة آلاف مشارك بعد معرفة ورصد الجوانب الأساسية للحياة من (الرياضة، والغذاء، والتدخين، وتعاطي الكحول، والحالة الزوجية) كان التساؤل هو ما أكبر مسبب لحياة طويلة الأمد؟