لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
عمليات التطوير العمرانية جزء أساسي من عمليات تطور المجتمعات، فالمنازل الجيدة تعطي أساسيات الحياة الآدمية للمواطن، والتنمية الصحيحة تبدأ من تنمية الفرد وكل ما يتصل بحياته، فهو جزء أساسي من حلقة التنمية المستدامة، وهو اللبنة الأساسية لتركيب المجتمع المستهدف من التنمية. وتسعى حكومات كثيرة لتوفير منازل معقولة للقضاء على العشوائيات، بحيث تكون هذه المنازل تضمن الحياة الآدمية وفي نفس الوقت لا تكلف الدولة، ولكن الخطأ الذي يقع فيه كثير من المخططين للمشاريع الخاصة بتطوير المشروع هو عدم القيام ببحث اجتماعي عن احتياجات المواطنين في منازلهم. وكونها متناسبة مع ثقافتهم أيضًا.والنتيجة تكون فشل كثير من المشاريع العمرانية وكذلك غضب المواطنين حتى من سكان العشوائيات، وفي السطور القادمة سوف ترى أمثلة على أثر غياب البحث الاجتماعي على مشاريع التطوير العمراني للعشوائيات وتوطين البدو، وتوضيح بعض من وجهة نظر السكان عن سبب عدم مناسبة تلك المنازل لهم، وأبعاد أخرى عن نتيجة تجاهل البحث الاجتماعي.محاولات توطين البدو الفاشلة
في محاضرة في الجامعة في السنة الأولى من قسم الأنثروبولوجيا، تحدث الدكتور في محاضرة عن الثقافة وأثرها، ومحاولات مصر في توطين البدو التي باءت بالفشل، قال إن الدولة قررت توطين البدو لتوفير الخدمات لهم والرعاية ومحاولة السيطرة عليهم أيضًا، فخططت الجهات المختصة لمشروع التوطين وتولت شركة مقاولات تنفيذه، وعند البدء بتسليم المشروع للبدو في المرحلة الأولى ظهر أن البدو غير راضين تلك المنازل.وظهرت ملامح فشل المشروع والتي بعض منها وصل لمرحلة تدعو للسخرية، عندما قام بعض البدو بترك المنزل الذي أعطته له الدولة ونصب خيمته من جديد، وأدخل الأغنام في المنزل بدلًا منه، للوهلة الأولى يبدو أن هؤلاء الأشخاص مجانين. وعند سؤالهم عن السبب قيل إن هذه المنازل غير متناسبة مع طبيعة حياتهم والبيئة أيضًا، فالحرارة المرتفعة في الصحراء جعلت من المنازل الأسمنتية كالأفران الحرارية، كلما زادت درجة الحرارة ارتفاع درجة حرارته، وهذا على العكس من الخيمة التي تتكون من أقمشة مسامية، تسهل تبدل الهواء داخلها ومروره، فلا يسخن كما حدث في المنازل الأسمنتية.كما أن المنازل التي قدمتها الدولة لا تراعي ثقافتهم الخاصة في ثقافتهم، مثل أن البدو يعتبرون أن دورة المياه بيت الشيطان، ولذلك في الغالب يحددون مكانها بعيدًا عن منازلهم مسافة لا تقل عن 10 أمتار، أما في المنازل التي قدمتها الدولة كانت دورة المياه داخل المنزل، وهذا كان مرفوضًا تمامًا بالنسبة للبدو، بالنص قال أحدهم كيف أعيش مع الشيطان في منزل واحد.مشهد من الواقع
في بحث ميداني بمرافقة فريق تدريب الجامعة تقابلت مع بعض من تقرر لهم نقل منازلهم، قال أحدهم أنا شخص يملك كشك خشبي يطل على البحر مساحته كبيرة أربع غرف، وهواء البحر ينعش روحي، ولكن ماذا قدمت لي الحكومة؟! قدمت منازل في طوابق مرتفعة بعيدة عن احتياجاتنا ولا تراعي ثقافتنا فما الفائدة من منزل يبدو أنه متطور وضيق يخنق الأنفاس.كما أن الطوابق المرتفعة لا تناسب حياة عجوز مُسن يخاف من المصعد (الأسانسير) فالنتيجة يصبح هذا العجوز كمن حكم عليه أن يبقى حبيس منزله، بعد ما كان يفتح باب منزله أو الشباك فيجلس ويراقب المارة ويتواصل مع جيرانه، ومن واقع دراستي للأنثروبولوجيا أقول إنه إذا كان قد حدث بحث اجتماعي كان سيعطي العجوز منزلًا أرضيًا يمنحه احتياجاته النفسية.دراسة الجانب الثقافي للمواطنين سر نجاح مشاريع العشوائيات
دراسة الجانب الثقافي والاجتماعي للفئة المستهدفة عامل أساسي لنجاح الخطط التنموية التطويرية، فبدونها تستمر موجة الغضب بين المواطنين المستهدفين سواء في العشوائيات أو المشاريع السكانية. فلا بد أن تتوفر للمواطنين نفس الاحتياجات والخصائص التي كان يوفرها لهم المنزل السابق، كما أنه يجب أن ينتقل الفرد بإرادته ويشعر أن له الإرادة الحرة في ترك هذا المنزل أو يقتنع على الأقل أن هذا الانتقال من مصلحته.
وحتى يحدث هذا فلا مفر من الحوار الاجتماعي التمهيدي لكل من تستهدفه عمليات التطوير ليشعر بالرضا وتقبل الانتقال، فإذا كانت الدولة تريد أن تقدم لفئة محددة ما تحتاجه فيجب أن تقدم بالطريقة التي تتناسب مع تلك الفئة.رأيت مؤخرًا أن بعض العشوائيات يتم نقلها لأماكن من المفترض أنها تقدم مساكن إنسانية كريمة ولكن وضعت هذه البيوت في محيط ثقافي غير متناسب، فقد كان التجمع السكني يهدف لنقل عشوائيات من منطقة محددة لتلك المنازل. ومع الأسف المحيط بهذا التجمع فئة اجتماعية أعلى بكثير، وكانت المسافة الفارقة بينهم لا شيء يذكر، وكان المحيط البيئي المرتفع ماديًّا عبارة عن قاعات خاصة بالاحتفالات الفارهة ومحلات تجارية مختلفة ومستوى المترددين عليها فيما فوق الطبقة المتوسطة.ولكن الأشخاص الذين يسكنون تلك التجمعات السكنية من الطبقة الدنيا في أبسط مستوياتها، هذا الوضع يضع هؤلاء السكان في وضع يعرضهم للشعور بالحقد الاجتماعي والنقم على حياتهم، لأن هذا الوضع يجعلهم يوميًّا يراقبون من يمتلكون المال ويحتفلون، بينما هم غارقون في ديونهم بالتأكيد يرون مثل هذا في التلفاز.بينما عندما يكون واقع ملموسًا يراقبونه ويرون السيارات الفارهة تدخل قاعات الاحتفالات الفخمة بينما منهم من لا يملك حق المواصلات اليومية لتنقلاته اليومية الأساسية، تلك المقارنات سوف يكون لها أثر سلبي بشكل كبير على السكان الذين يعملون في منشآت الدولة المختلفة، وتلك المشاعر قادرة على التأثير سلبًا على مستوى إنتاجيتهم، التي تؤثر بدورها على كفاءة سير عجلة الإنتاج.إذا كنت تريد أن تخدم مجتمعًا فعليك أن تخدمه وفق احتياجه عندما تقدم مساكن جيدة لسكان العشوائيات دون توفير عمل سوف تجد العشوائيات ظاهرة لا تنتهي، فببساطة سوف يعود الشخص لبناء المنزل العشوائي مرة أخرى ويقوم بتأجير المنزل ليسد احتياجاته المادية.في النهاية.. تجد أنه لا غنى عن العلوم الإنسانية التي تلمس البشر كعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا، لتقدم خدمات تلبي الاحتياجات وتصل بهدفها بأفضل طريقة لتقليل الخسائر.