لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
موهبة الكتابة من المواهب الفريدة في نظري، أراها ملَكة نستطيع أن نرى من خلالها كل شيء في الكون يَصلُح لِأن يكون نصًا مميزًا بحد ذاته، مهما صغُر هذا الشيء أو كبُر.
أحيانًا تكون قضية كبيرة تُحركك لتكتب عنها بشكلٍ مختلف، وأحيانًا يكون موضوعًا صغيرًا لفت انتباهك بصورة لم يرها غيرك، وأحيانًا كثيرة يكون موضوعًا كثُر الكلام فيه وتناوله الكثيرين من كل الزوايا؛ ورغم ذلك كله عندما تضع قلمك لينطلق فيه، يتفتح جانبًا مختلفًا عمّا تحدث به أي أحد.
بصمتك الكتابية
فكما أن لكل أحدٍ بصمة أصبع وبصمة عين وصوتٌ مختلف؛ كذلك بصمته الكتابية، فمهما تشابهت المواضيع التي نكتب عنها، لا تتشابة الكتابة.
في بعض الأحيان أدخل لأقرأ مواضيع تُشبه في عناوينها عنوان مقالٍ كتبته سابقًا، وأتأمل الاختلاف في الطرح، والأسلوب، والرؤية، والتنسيق أيضًا. فأجد بعض التشابه ولكن من أسلوب كل كاتب أعرف من هو دون قراءة اسمه! أرى في النص روحه، ينبُع إحساسه من بين الكلمات، أسمع صوت قلمه الفريد في رصف الكلمات.
وفي المقابل تغمرني السعادة عندما يقول لي أحد؛ عندما رأيت تلك الكلمات عرفت أنها لكِ دون أن أنظر إلى الاسم. أمّا إذا أخذ جزءًا من كلماتي لمسه وحرك يديه ليُعيد كتابته ثم يقول لي هذا الجزء أخذني معه، غمرني باحساسه وتعلّمت منه شيئًا؛ فهذا شعورٌ لا تصفه كلمات. فحتمًا تذوقه كل كاتب عندما رأى قطعة منه سكنت في قلب أحدهم. شعورٌ يجعلك تُريد الاستمرار في الكتابة طوال عمرك دون انتظار أي مقابل مادي؛ فقد تذوقت ما يُغنيك عنه، وما تكتُب لأجله قد تم.
كلمات الكاتب تعني له الكثير
أمّا على الجانب الآخر، فإذا اعتدى أحدٌ على كلماتي ورأيتها بالصدفة مسروقة تحت اسمٍ آخر! يتملكني غضبٌ عارم، يحمّر وجهي وتتسع مقلتاي ويجري الدم في عروقي استعدادًا للدفاع عن شيء ثمين سُلب مني!
الكثير من الناس ممن يفعلون ذلك لا يشعرون بأنه اعتداء وسرقة، يظنون أنها مجرد كلمات، ولا يرون ما وراء كونها أحرفا. أكثر هؤلاء لا يتذوقون الكلمة، هم فقط يأخذون ما يريدون منها، يرَون استفادتهم فقط. أمّا نحن -أهل الكتابة- نراها بجميع حواسنا، نُحاوطها بالرعاية والحب الذي يجعل للكلمات طاقة تصل لقلب كل من يقرأها.
كيف نكتب؟
كثيرًا ما تندلع شرارة الكتابة لدى الكاتب عند إثارة مشاعره وأفكاره، فتتدفق الكلمات داخل عقله ويجري قلمه على الورق الأبيض كسرعة الريح في يومٍ عاصف، تعصف بعقله يمينًا ويسارًاً ولا تستطيع إلا أن تتجسد في كلماتٍ مصفوفة. ليكتشف علاقاتٍ جديدة بين الأفكار عمّا كان يدور في ذهنه فقط، تُكشَف الحُجب عندما تخرج الأفكار خارج حدود العقل. يرى ما كان لا يراه من قبل، ولا يعرف من أين خرج هذا، ومنذُ متى وهو يؤمن بما كتب الآن!
كما إن عقل الكاتب بحد ذاته موسوعة، لا أظن أنه يوجد موضوع لا يستطيع الكتابة فيه حتى ولو أسطرًا قليلة. وهذا بسبب أنه يقرأ بنهم، شغوف بمجالاتٍ عديدة. ويسمع لمُختلف الآراء. هو إنسان متنوع، ومتجدد، ولمّاح، ومُعبّر. وكل هذا ينعكس على كتابته.
لعبة الكلمات، وتقمص الكاتب للشخصيات
اُشبّه الكلمات دائمًا بأنها أكبر لعبة ‘بازل’ خُلقت.. وليس لها شكلاً صحيحًا إلا كيفما يراها كاتبها. نستمتع باختيار الكلمة المناسبة والمُعبّرة من بين العديد من الكلمات التي يُمكن أن تُعطي نفس المعنى، نَصّف الكلمة بجانب الآخرى ونتذوق وقعها على آذاننا. وندخل بداخل الحرف نُزينه بتشكيله المناسب، ثم نخرج خارج النص لنراه بعين القارئ.
هذه قدرة الكاتب على خلع رداء شخصيته وارتداء شخصيات عديدة متنوعة من القراء، فيراى بعين القارئ ويسمع بصوته. وينتقد بروح الناقد القابع داخله.
ثم بعد كل ذلك يعود إلى نصه ليحنو عليه، ينظر نظره تقبُّل لكل ما رأى فيه من عيوب، فمهما حصل سيظل جزءً منه حتى لو لم يقراءه غيره. ثم يعزم على إصلاحه وتنقيحه مهما أخذ من جهد ووقت. ويظل يُنقّح ويُعدّل ويتأمل إبداع صنعه، ويشعر بالعشق لموهبته من خلاله.
الكتابة وحي أمّ تدريب؟
الكثير يتسائل هل الكتابة إلهام ووحي، أنتظره ليأتي؟.. أمّ إنها التزام وتدريب، ولابد أن أخصص وقتًا لها؟
وأنا أراها تجمع بين كل هذا، هي إلهام ووحي نعم، ولكن لابد أن تتدرب لكي يأتي الإلهام وتلتزم كي تحفزه للمزيد. فإذا لم تُخصص وقتًا للكتابة فكيف ستعرف أنه جاء الإلهام؟
أحيانًا سيقتحمك الإلهام ويُجبرك على الكتابة، وأحيانًا أخرى سينتظرك لتستدعيه، وتُصفّي ذهنك لتتلقاه. فالكتابة حالة من القدسية لابد أن تكون معها في حالة خشوع وسكينة.
قفلة الكاتب
أمّا عن قفلة الكاتب فأشعر أنها أكذوبة أو وهمًا نتخذه حجة كي ننقطع عن الكتابة لفترة، ندّعي أنه ليس هناك أفكار في عقولنا، أو ليس لدينا القدرة على الصياغة!
فأمّا عن الأفكار، فعين الكاتب عين خُلقت تلتقط التفاصيل، ثم تتشعب تلك التفاصيل وتأخذك إلى عدة أماكن ومنها تتدفق الكلمات. فلا تمنعها من التشعب واترك لخيالك العنان.
وأمّا عن عدم القدرة على صياغة الأفكار ووحش الورقة البيضاء، فلا حل له إلا كسر هذا البياض بسواد الحروف. حتى لو لم تكن الصياغة جيدة، أكمل كتابتك، فرّغ أفكارك، فليس ما تكتب الآن سيُنشر. يُشبه هذا خيطًا رفيعًا تكاد لا تراه، لكن عندما تُمسك به سيُمكنك سحب ما تبقى من البكرة. فلا تنتظر أن ترى البكرة أولاً!
وإذا صَعُب عليك فعلاً أن تكتب، فلتكتب مذكراتك وأحداث يومك. وإذا لم يفلح هذا أيضًا؛ فاترك عقلك يستريح قليلاً، ولكن حاول أن تضع له وقتًا محددًا ليعود فيه كي لا تطيل المدة وتبتعد كثيرًا.
وأخيرًا: إذا كانت الكلمات تُحركك وتُشعرك بالسعادة فلا تتوقف أبدًا، فالعالم بانتظار إبداعك الفريد.