100 100 100

أتبيع رأسك بمقابل؟ (مراجعة رواية: الرجل الذي باع رأسه)

لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد

أجلس الآن لأكتب هذا المقال بعد أن أنهيت طلبي لأكثر من (5) كتب تتحدث عن العقل البشري وإمكانية عمله. مع تقدم العلم والتكنولوجيا بدأنا ندرك جزءًا ضئيلًا من العقل ووظائفه، بدأنا نرى ما يمكن للعقل البشري أن يفعله لصاحبه، وما يمكن أن يحدث حين يخدع نفسه وينقلب على حاله. تلك الكتب هي محاولات لتفسير تلك الأجزاء الضئيلة التي حاول العلم الوصول لشيفرتها.في نفس الوقت، هناك على الجانب الآخر من العلوم ما يقر أن العقل ليس هو المتحكم بصورة كاملة في الإنسان وأن هناك الروح والقلب، هناك من يعتقد أن العقل ليس متحكمًا على الإطلاق. فما هو الرأي الصائب؟ وما هو العقل؟ وما الذي سيحدث إن كان عقلك ليس مِلكًا لك؟ما الذي سيحدث إن عرض عليك أحدهم أن يشتري رأسك بملايين الجنيهات؟ حسنًا .. لا أعلم أهي مقدمة مناسبة لموضوعي أم لا.. ولكن تمسك بذلك السؤال، فأنت ستحتاجه في نهاية مقالنا قارئي الصبور.منذ عدة أيام، وقد انتهيت من رواية "الرجل الذي باع رأسه" للعبقري المتفلسف "يوسف عز الدين عيسى" وهو أديب ومفكر مصري ترشح لجائزة نوبل، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام(1987م). يوسف عز الدين كانت له مدرسته الخاصة في الكتابة في مصر، حيث اختلط لديه الواقع بالخيال، ليقوم بخلق عوالم من الرمزية المستترة في زي الحياة اليومية وزي الأحلام.. من أبرز ما كتب كانت رواية "الواجهة" التي أعتبرها وبشكل شخصي من أقرب الأعمال لقلبي وروحي.حيث جلست يومين بدون نوم فقط لكي أكملها، كانت من فرط رمزيتها المكشوفة تكاد تكون غير رمزية، جلست أسبوعين بعدها أحاول أن أقول رأيي فيها، فاكتفيت أن أقول لأصدقائي أنها ترشيح لهم ولشدة حبي لها، قد اشتريتها مرتين .. فقط لأني أقدر هذا الرجل وهذا العمل وما يحمله من معان كثيرة مختبئة ولكنها مفهومة.عندما اشتريت "الرجل الذي باع رأسه" كنت متشككة أن تعجبني مثل "الواجهة"، ولكن مع أولى الصفحات.. مع الصفحة العشرين، وقعت في تلك الرواية وكنت التهم صفحاتها وكأني في سباق.

ما الحدث الرئيسي في الرواية؟

رمزي الفتى الفقير الذي ماتت أمه التي تعيله، ثم تموت أخته فيحاول أن يعيل نفسه، حتى ينتهي به المطاف فقيرًا وجائعًا يسكن في غرفة على سطح لعمارة، لا يجد من يشفق عليه أو يحبه أو حتى يهتم به، الوحيد الذي يعرفه ويدخل حجرته هو ذكر من البط يسكن معه السطح يدخل حجرته فقط ليضع برازه السخيف على كنبة رمزي.يشترى رمزي بآخر ما تبقى له من أموال في جيبه حبلًا لكي يشنق نفسه، فقد تعب من الحياة وحيدًا وجائعًا لا ينتبه إليه أو لآلامه أحد من الناس.. يقوم بعمل الحبل على شكل مشنقة، ثم يهم بوضع رأسه سائلًا ربه العفو والمغفرة، ومودعًا العالم بكل ما يحمله من قسوة وكره ثم يهم أن يرحل حيث لا يعلم هو نفسه.. ليجد رجلًا طويلًا نحيلًا يمسكه ليستعطفه ألا يفعل.وهنا أتدخل أنا لأقول كم إنه رجل ودود وطيب.. كم هو منقذ ونبيل، ولكن عزيزي القارئ .. لسنا كلنا نحاول أن ننقذ الناس فقط لأننا نحب البشرية ويرعى بعضنا الآخر.. فقد كان الرجل يريد أن ينقذ رمزي لكي يعقد معه اتفاقًا.. لن نفهم مغزاه بل لن ندرك مدى غرابته وغرابة هدفه إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية.

ما الاتفاق أو العقد؟

كان الاتفاق ولاحظ عزيزي القارئ أن الرواية كتبت بل وأحداثها تدور أيضا في 1960.. حتى لا تستغرب ما سأقوله لاحقًا. أقنع الرجل رمزي بألا ينتحر .. فرمزي فقط لم يجد الفرصة المناسبة ولم يجد ما يعينه، وشكر الرجل في ألحان الناي التي كان يعزفها رمزي، فمن خلال الأحداث يتضح لنا أن ذلك الرجل النحيل المريب هو جار رمزي الذي كان يستمع لألحانه ثم في النهاية أصبح منقذه.وكان الاتفاق أن يبيع رمزي شيئًا ثمينًا للغاية لذلك الرجل وذلك بمبلغ طائل لم يكن يحلم رمزي حتى بعشره، وهو ألفان من الجنيهات، والتي كانت مبلغًا ضخمًا جدًّا حينها. ينتهي الربع الأول من الرواية وقد باع رمزي رأسه وأصبحت فوق كتفيه على سبيل الاستعارة ليس إلا، فقد طلب الرجل تسجيلها في الشهر العقاري على أن تظل على كتفيه ولكنه يصبح حارسًا عليها. وقد تم الاتفاق بحذافيره.ما الذي تفكر به عزيزي القارئ؟ لنبدأ من أول سؤال.. ما تلك الرواية وكيف أتت الفكرة.. أليس كذلك؟ حسنًا دعني أعطيك ملخصًا عن كيفية إتيان الفكرة الغريبة ليوسف عز الدين .. بداية فقد كان كاتب الرواية يجلس ليعرض مسرحية إذاعية من تأليفه لكي يتم إذاعتها في الراديو المصري، جلس يوسف يعرض الفكرة وسط المؤلفين والمنتج والمخرج، ثم بدأ يتحدث عن التفاصيل المادية، فما كان من المنتج إلا أن قال إن المؤلف أي يوسف عز الدين هو آخر من يتحدث عن الأجر، على أساس أنه الأقل أهمية، فأخذ يوسف قصته وركب القطار ليعود لأسكندريته الحبيبة لتأتي الفكرة في القطار.لنعود للسؤال الذي طلبت منك أن تتمسك به، أتى لك رجل عرض عليك مقابلًا أنت في حاجة ماسة إليه، فقط ليأخذ رأسك أو يتملكها، ماذا إذا كان المقابل ما أنت تفتقده في حياتك وليس بالضرورة الأموال؟ هل سترضى بالثمن؟ أم ستحتفظ برأسك؟ فقط لأنها مكان التفكير واتخاذ القرارات ومحور وجودك وإن حدث فيها خلل ما لن تعود كما كنت؟ أكنت ترضى؟حسنًا.. أجل إجابتك فرمزي سيتدخل بيننا الآن ليعلن موافقته ثم تمضى الحياة، فيحدث ما سيحدث وذلك لأنني لا أحب أن أحرق لك الأحداث، وسيمر رمزي بسلسلة من الأحداث التي ستجعله غنيًّا غناء فاحشًا، فسيصبح رمزي بك الغني الموهوب. ثم بعد الكثير من السنوات، يعود الرجل ليسترد أملاكه، ليبرر لرمزي أن كل ما فيه رمزي من نعيم ونعمة فهي ملكه، وحتى زوجته فهي ملكه، لأنه أقام ما أقامه بعقله الذي يقع داخل رأسه والتي يملكها الرجل منذ عدة سنوات تاركها على أكتاف رمزي على سبيل الإعارة، فما الذي سيحدث؟ وما حكاية الصندوق الذي سيطارد رمزي؟ وكيف سيتصرف رمزي في الوضع؟نعود الآن لي أنا وأنت تاركين أحداث الرواية لنعود لمجلسنا مرة أخرى، هل ستقبل؟ وإن قبلت هل تعيد له كل ما حصلت عليه خلال السنوات اللاحقة للاتفاق؟ أم أنك ستدافع عن اختياراتك وأموالك أنها نتاج مجهود بدني ونفسي وقرارات مشتركة بين القلب والعقل وأنك لم تكن تعيش بعقل فوق كتفيك فقط وإن لك ذراعًا وعينًا وقلبًا وروحًا؟هل كنت ستقبل؟ هل كانت قراراتك ستكون ملكك أم ملكه؟ هل يمكن أن يطلب منك المالك لعقلك أن تنظر في اتجاه معين؟ أن تفكر بفكرة معينة؟ أن تأكل أكلًا محددًا سيغذي عقلك؟ هل العقل وفقدان ملكية في سبيل المال أمر محتمل؟حاول أن تقف حيث وقف البطل. حاول أن تعين عقلك على تخيل ما يمكن أن يحدث. في العموم، رفض رمزي ما يحاول مالك رأسه يحاول أن يحصل عليه، وبناء عليه لجأوا للقضاء الذي قال كلمته، وما بعد القضاء كان الجزء المفضل والقاسي أيضا بالنسبة لي في كل الكتاب، فما حدث بعد ذلك سيفقدك عقلك عزيزي القارئ بل سيجعلك تقرأها وتحتفظ بها في مكتبتك.

كلمة أخيرة:

إن الشخصية الرئيسة رمزي والذي كان رأينا حياته منذ كان في الرابعة والعشرين وحتى لحظة "تمت" التي في نهاية الكتاب، كان موهوبًا ولكنه كان فقيرًا فلم يستطع أن يكتشف ما لديه من مواهب وذلك لأن حياته كانت سعيًا مستمرًا لكي لا يموت جوعًا أو قهرًا وهذا ما يطرح علينا سؤالًا آخر لم يكن في الحسبان؛ الفقر قاتل؟ قاتل للحياة؟ الفقر هو شخص يجلس على أكتافك فقط لكي يجعل حركتك أثقل؟ أم أن بطلنا الذي سلم رأسه مقابل حفنة من الأموال هو من تكاسل ولم يستطع أن يدير حياته بغير تدخل من الخارج ومعونة؟تلك كانت الرواية التي تجعلني أقلق في منتصف النهار لأقطع عملي لأقف لحظة وأنظر لنفسي في انعكاس شاشتي لأتساءل .. هل كان رمزي يستحق مصيره؟ أم أن العبث هو ما يحكم الحياة؟
إليك أيضًا

تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد

ربما تستفيد من هذه المواضيع كذلك :

تعليقات الفيسبوك
0 تعليقات المدونة

تعليق الفايسبوك

01ne-blogger

إرسال تعليق