لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
ما هي الحياة السعيدة؟ يختلف تصنيف الناس لمعنى السعادة في الحياة حسب الميول والفطرة والانتماءات والإمكانيات العقلية؛ ويتراوح التمييز غالبًا بين المتع العابرة التي لا تستغرق إلا وحدات الزمن الابتدائية عند البعض، وصولًا إلى الراحة الأبدية التي لا يمكن أن تتجلى إلا في النعيم المقيم وجنات الخلد في وجدان كثيرين، وما يكون بين ذلك من تحقيق الأحلام كما يصنفه البسطاء أو إنجاز الأهداف كما يصفه أصحاب المناهج الدقيقة.
فالحياة السعيدة بمجموع المفاهيم تعني الحياة المنتجة؛ التي ينشأ عنها تحرير للغايات وإمساك بالمرغوبات، وهو ما يجري تقييمه غالبًا بصيغة “التفضيل”: كالتقدم الأسرع؛ والتَّعلم الأكثر؛ والمكآفات الأجمل مثلًا، وهذا ما يعرّف تقنيًّا بـ”الإنتاجية”.
والإنتاجية لا ترتبط بكثرة المهام بل بفعاليتها على الوقت؛ بمعنى أن تلتزم بالقيام بالأعمال الصحيحة التي تكون نتيجتها ذات معنى: مثل تعلُّم مهارات أو الحصول على أموال أو تحقيق مصالح ضرورية؛ وليس الدوران في حلقات حيث ربما تبدو مشغولًا جدًا ولكنك فعليًا لا تنجز أشياء مهمة، إذ أنك لا تكون فعّالًا في الأوقات التي لا تختبر فيها تطورًا شخصيًا أو عاطفيًا أو ماديًا، وهذا تحديدًا ما تصنعه الأوقات الضائعة بحياتنا.
تضييع الوقت هو تمضيته عكس الحكم السليم، فبدل أن تقوم بإنجاز مهامك اليومية الرئيسية، مثلًا تستمر لساعاتٍ في تفقُّد إخطاراتك الإلكترونية -التي تبلِّغك عادةً بأشياء لا تُهِم- عبر جهازك الذكي، ما يفقِدك التَّركيز على الأمور المهمة حقيقةً بل والتحول إلى عبدٍ للجهاز، والأوْلى في هذه المرحلة هو التَّساؤل عن الأمور التي تجعلك تقوم بتضييع وقتك؟ ستتضمن الإجابات غالبًا الأشياء التي ينبغي عليك التخلي عنها تمامًا من أجل الحفاظ عليه. وستمنحك نظرة على كل الملهيات والشواغل المانعة من تركيزك على تنفيذ الحكم الصحيح للقيام بالعمل المناسب؛ فتحييدك للملهيات عنصر رئيسي للتحكم في الوقت وتسييره باتجاه الأهداف ومنع هدره.
لتحقيق الفصل الذهني هناك ضرورة لاتخاذ مادة كتابية تعتمد عليها لتصنيف أولوياتك وتحديد عناصر الضبط وتقييد نقاط التقدم ومواضع الخلل من خلال سجّل نشاطات، مثلًا تدوِّن عليه عناصر التحكم: الأهداف؛ والوقت والفعالية، إذ لا مانع من اتخاذ أوقات محددة للترويح ومتابعة تواصلك الاجتماعي إلكترونيًا أو الحصول على جلسة قهوة أو غفوةٍ نهارية، ولكن من خلال ترتيبٍ منظَّم لا تتنازل فيه عن فعاليتك الإنتاجية؛ هذا الدعم المكتوب سيسمح لك بتقدير التَّقدم الحاصل وسيجعل من المخيف التخلي عنه لصالح وظائف أخرى أقل أهمية؛ وبهذه الطريقة تكون قد قمت بوضع لوائحك.
كل إنجاز أو نجاح أو نجاة تنشأ بطريقةٍ ما على نوع من تحدي الذات؛ إدراكك لأهمية وقتك وتمييزك للمهام المنوّطة بك يفرضان عليك تسيُّدًا في مواجهة العوائق؛ فتقديرك للتواصل مع الآخرين لا ينبغي أن يتجاوز حريتك الشخصية وقدرتك على تعطيل الإخطارات التي تشتِّت تركيزك ضمن مساحةٍ مكانية وذهنية تتجاوز مجال السمع والبصر، فكرة حظر الدخول إلى المواقع الأكثر اهتمامًا من طرفك على الأرجح ستُقابَل بتحايلٍ من عقلك للعثور على فرصٍ أخرى للتَّصفُّح؛ ولكن المغزى هنا هو جعل المماطلة أمرًا مجهدًا أكثر مما تستحق بحيث ستفضل عليها العمل المنجِز، تحدِّي التخلص من الملهيات والقدرة على اتخاذ القرارات والقوة في صياغة مصلحة الذات هي العنصر الأهم في مسار الحفاظ على الأوقات وحوار الفعالية والإنجاز.
من المفيد وضع آجال محدِّدة للأهداف وجدولة الأعمال من خلال مواعيد نهاية، لأن العقل البشري يتحفز بـ”الاستعجال”، وإلا فإن الملهيات اليومية الصغيرة والعناصر “الطارئة” ستجعل المهام تبدو أبدية؛ كما أن معرفة وجود حدٍّ للعمل مريحٌ للنفس وعامل استرخاء ومكافأة كريمة للجهد المبذول؛ ثم إن التَّقدم المتدرِّج المقيَّد بالوقت يشكِّل حائط صدٍّ يمنعك من خيانة إنجازاتك السَّابقة حيث سيجعل من الصعب عليك التراجع.
قيامك بمعايرة الأعمال غير المنتِجة ذات المردود الصفري ثمَّ التخلُّص منها بإلغائها من جداولك هو ما سيسمح لك بإعطاء تقدير أكبر للوقت والحفاظ عليه من خلال تجنب تضييعه؛ ولكن هذا الأمر لن يتم إلا بطريق الإدراك أن وقتك مسؤولية ذاتية مرتبطة بك وحدك، فضمن الأربع وعشرين ساعة التي تملكها في يومك عليك الاختيار بين تحضير كوب شاي والجلوس لمشاهدة جميع برامج قناتك المفضلة، وبين توجُّهٍ ذو معنى يتضمَّن العمل على الأهداف وأخذ الخطوات الصحيحة نحو حياة تشمل تطورًا دائمًا يمثِّل شغفك، حيث لا مانع أبدًا من الاسترخاء عند الحاجة بشرط التّمييز بين الاسترخاء وتضييع الأوقات.