لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
إن هذا الفن يمتد عبر العصور التاريخية المختلفة، فهي أقدم لغة عرفها الإنسان قبل أن تكون هناك أي لغةٍ للتخاطب.
ففي العصر البدائي لم تكن الجدارن تتجاوز الغرض السحري للسيطرة على الطبيعة، فقد كان الرجل البدائي يخدش بقطعةٍ من الحجر الصوان على جدران الكهوف رسمًا لإنسانٍ يضرب ثورًا أو غزالاً أو طورًا لها أغراض سحرية خاصة بالطقوس التي يمارسها قبل عملية الصيد.
وبذلك كانت الرسوم داخل الكهوف تساعد الإنسان البدائي على تحقيق معتقداته السحرية، فهي تحمل في طياتها مضامينًا عقائدية يعبّر بها عن مخاوفه ومطالبه وحاجاته، وتُفصح أيضًا عن تأثره بالبيئة المحيطة.
وفي الحضارة المصرية القديمة جاءت الجداريات تسجيلاً لقصة حياة الإنسان المصري ورحلة مماته على جدران المعابد، بل في المقابر الملكية بكل مظاهرها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، سواء كان عملاً جداريًا أو نقشًا ورسمًا حائطيًا.
ومع التطور التاريخي اختلفت نظرة الفنان المصري للجداريات بمجيء الديانة المسيحية، فقد تغيرت مطالبه النفسية والروحية لتتخذ من الأعمال الفنية الجدارية موضوعات أخرى تختلف صياغتها وعناصرها وخاماتها وأساليب تشكيلها، وأصبحت الأعمال الجدارية في الكنائس بمثابة جزءٍ أساسيٍ يؤكد على الأهداف الروحية لبنائها ويحكي بالشكل والرمز ما ارتبط بالدين من مكانةٍ لترسيخها في نفوس المصلين من الأقباط.
وبظهور الفن الإسلامي اتخذت الجداريات مظهرًا مغايرًا سواءً في الموضوعات أو العناصر لتصبح تشكيلاتها من وحداتٍ بنائيةٍ مجردة ومفرداتٍ هندسية وكتابات، مفصحةً بذلك عن مضمونٍ جِدّي يحمل قيمًا روحيةً ذات منفعةٍ حقيقيةٍ لتزيين وتجميل واجهات وأسقف وجدران وأرضيات المساجد والقصور.
والمتتبّع لحركة الفن في العصور الإسلامية المتلاحقة يلاحظ أن التراث الفني الإسلامي يزخر بالعديد من المفردات الهندسية كالمربع والمثلث والدائرة.. وغيرها من المفردات العضوية المجردة المتمثلة في أشكال النباتات والطيور والحيوانات، والتي استخدمت ببراعة لمعالجة وتجميل الأسطح الداخلية والخارجية للعمائر الدينية والمدنية.
لقد استفاد الفنان في العصر الإسلامي من كل ما وقع عليه نظره من عناصر آدمية وحيوانية ونباتية، وعناصر هندسية، وعناصر كتابية، فأكسبت تصاميمه وزخارفه خصائص إبداعية، وحققت أهدافه التصميمية، وعمل على تحوير العناصر الطبيعية في بعض الأحيان بتبسيطها وتجريدها أو بالإضافة إليها.
إن الفنان المسلم استطاع أن يبتكر نوعًا من الزخارف والحِليات التي تخضع لنظامٍ هندسي نستدل منه على مدى اهتمامه بالتفكير الرياضي المجرد في بنائه لتلك الزخارف.
ويمكننا القول بأن الفنون الزخرفية قد احتلّت مساحات واسعة في الفن الإسلامي، وابتكر الفنان المسلم العديد من الأساليب الزخرفية المميزة لهذا الفن حتى صارت الزخارف الإسلامية متفردة ومتميزة بأشكالها ونُظمها وحيويتها، وبثرائها وجمالها.
ومن بين هذه الفنون المميزة في الفن الإسلامي تلك المشغولات الخشبية التي زخرت بها المتاحف الفنية وخاصةً التي تخدم العمارة الداخلية والتأثيث الداخلي في بيوت القاهرة القديمة، حيث أن المشغولات الخشبية على اختلاف أنواعها وأشكالها ووظائفها وممارساتها التطبيقية تحوي داخلها قيمًا فنيةً وتشكيلية، يمكن إبرازها في الزخارف التي تجمع بين الوحدات الهندسية والعضوية معًا في كيانٍ واحد.
فالممارسات التطبيقية والتجريبية في أشغال الخشب من المداخل الهامة التي تلعب دورًا أساسيًا في تنمية القدرة على الابتكار والإبداع.
إن هذه الممارسات تحمل في طياتها قيمًا جمالية وتشكيلية، فإنها لن تتعدى عن كونها تُصنع لأصولٍ صناعيةٍ أو حرفيةٍ فقط ترتبط بمجال التجارة، فمجال أشغال الخشب يتطلب تصميم أو موضوع يُراعى فيه أسس وجماليات التصميم بشكلٍ عام بجانب التقنية.
حيث يعد التصميم أو الموضوع هو ذلك المدخل الرئيسي الذي عن طريقه تتم عملية التعلم، ولكن عن طريق تنظيم عناصر العمل، بل على الأرجح تنظيم الأفكار ذاتها قبل البدء في العمل، وهذا ما يؤكد أن “العمل الفني كيان تنظيم فيه مواد الفنان مع انتظام أفكاره، وانفعالاته مع أدائه وتقنياته”.
إن دراسة العلاقات التبادلية الناشئة بين الأشكال المسطحة والهيئات المجسمة يتطلب إدراك واعي لفكرة الجدارية وكيفية الاستفادة من الزخارف الإسلامية المتنوعة في بنائها، بالإضافة إلى الدراسة الفنية المقننة لما يرتبط بطبيعة الأخشاب وخصائصها الفيزيائية والتشكيلية وأساليب المعالجات التقنية والعمليات الصناعية التي تجرى عليها.
فتحقيق المردود الإيجابي لتبادلية العلاقات الجمالية في الجداريات الخشبية بين التشكيل بالمستويات المسطحة والمجسمة يتطلب معرفة التباينات والتوافقات بين أساليب التشكيل الخشبي هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن تحقيق هذه العلاقة لها متغيراتها المتعددة، والتي ينتج عن كلٍ منها رؤية جمالية مختلفة، فالتدخل والاختراق والتراكب يمكن أن يكون متغيرًا، والاختراق والتقاطع يمكن أن يكون متغيرًا آخر، والتماس والتجاور يمكن أن يكون متغيرًا ثالثًا.