لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
إن ابتكار الكتابة باعتبارها نظامًا ملائمًا للتوسيم على الورق لعب دورًا أساسيًا في تطور الجنس البشري، لم يسبق لأي إنجاز فكري تحقيقه. رأي لا يخالف في شيء آراء كبار المفكرين –كارليل، كانط، ميرابو ورينان– الذين اعتبروا ابتكار الكتابة نقطة انطلاق حقيقية لميلاد الحضارة. وهي آراء تزكي أيضًا القول الشائع عند الأنتروبولوجيين: فبما أن اللغة تميز بين الإنسان والحيوان، فكذلك تميز الكتابة بين الإنسان المتحضر والإنسان المتوحش.
أين تتجلى أهمية هذه الآراء من وجهة نظر تاريخية؟ هل تعتبر الكتابة حقًا المسؤول الرئيسي الذي جعل من المتوحش متحضرًا؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يخلو من مجازفات، فظهور الكتابة بالمجتمعات القديمة تزامن مع ما شهدته هذه المجتمعات من تطور في مختلف مجالات الحياة، وارتقاؤها كان مقترناً بارتقاء السلطة والفنون والتجارة والتعدين والفلاحة وكل أنماط التواصل. وضع لم تشهد العهود السالفة المجردة من الكتابة مثيلاً له لكن لا شيء يدفعنا إلى الاعتقاد بأن ظهور الكتابة شكّل السبب الرئيسي لميلاد هذه الحضارات الجديدة.
يبدو جلياً أن كل هذه العوامل مجتمعة –جغرافية، اجتماعية، اقتصادية– والتي تسير نحو بناء صرح الحضارة شكلت عضواً متلاحماً لم يكن ليتحقق لولا الكتابة، أو بمعنى آخر فالكتابة لم تنشأ إلا في حضن الحضارة وهذه الأخيرة لم تكن لترى النور لولا وجود كتابة.
يبدو صعباً تمثل شخص مثقف وذكي في مجتمعنا الحديث يجهل أصول الكتابة والقراءة، ففن الكتابة جد منتشر ويشكل جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا. وقد خطونا أشواطاً بعيدة منذ اللحظة التي كان فيها أشخاص متعجرفين وأميين في العصور الوسطى يوقعون بعلامات الصليب، أما اليوم فالشخص الأمّي لن يساوره أمل المشاركة في تقدم الإنسانية، وما يصدق على الفرد يصدق على كل الجماعات والفئات الاجتماعية وقد يكون هذا الأمر أكثر حساسية بالنسبة لمجتمعاتنا الغربية.
ظهور الكتابة:
إنه لمن السهل جداً أن ندرك أهمية الكتابة: يكفي أن نتمثل عالماً يخلو منها، فكيف يكون وضعنا في فضاء يخلو من الكتب والجرائد والرسائل؟ ماذا سيحصل لأنماط تواصلنا ولفكرنا إذا افتقدنا فجأة قدرتنا على الكتابة ولم نقوَ على قراءة الرسائل التي تحكي ماضينا؟ إن الكتابة هي قوام حياتنا، يمكن لحضارتنا أن تصارع من أجل بقائها في غياب المال والمعادن ووسائل الإعلام والقاطرات والكهرباء، لكن قواها ستخور في غياب الكتابة.
ظهور الكتابة في حضارتنا وانتشارها عمل على تغييب تقاليد كانت تتسم بنفس الأهمية ونعني بذلك التقاليد الشفوية، وهذا واضح من خلال مقارنة ما نعرفه عن أسلافنا بما لدى بدوي أمي من معرفة بأجداده، فهذا البدوي يفتقد لوثائق مكتوبة لمعرفة تاريخ عائلته أو قبيلته، يعتمد فقط على ذاكرته في المحافظة على أحداث الماضي، إذ تمثل الكلمات المنطوقة الوسيلة الوحيدة يستطيع بواسطتها إيصال معارفه إلى الآخر.
إن الاستعمال المكثف للرواية الشفوية يساهم فعلاً في تقوية الذاكرة، وهذا شيء مؤكد، فعقلاء الهند كانوا يرتلون les vedas عن ظهر قلب واستطاع اليونانيون تخزين كل من الإلياذة والأوديسا في ذواكرهم. أما نحن فلسنا بحاجة إلى الاعتماد على ذاكرتنا للمحافظة على أدبنا الكلاسيكي، إذ يمكن الوقوف عليه مخطوطاً في كتب فالصيغة ex libro doctus تنطبق على أكثرنا. الثقافة الحديثة ليست مجرد معرفة حاضرة في الذهن فقط، بل هي أيضاً القدرة على إيجاد ما نحتاجه باعتماد الكتب والمكتبات.
الكتابة والفن:
لم تثرِ دراسة الكتابة من وجهة نظر فنية –حتى وقتنا الحاضر– اهتمام الباحثين فبالرغم من أن وظيفتها الأساسية تنحصر في التدوين والتواصل، إلا أنها كانت دائماً تنطوي على قيمة فنية، فهي بهذا تكون شبيهة بالصورة الفوتوغرافية، لكل منهما غاية فعلية ويمكنهما وفي نفس الآن بلوغ قيمة أثر فني.
إن الطابع الجمالي يبدو أحياناً أكثر إثارة تتحول معه الكتابة إلى زخرف متغاضية بذلك عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في التواصل، كما هو حال الكتابة العربية المزخرفة التي تثير المتلقي بجماليتها لكي يصعب عليه تفكيك رموزها أو استعمال كتابتنا في الخطاب الإشهاري وما تتسم به من أسلوب فني مفرط شبيه بأسلوب الباروك. كما تساهم الكتابة باعتبارها أثراً فنياً في تطويل مجمل الفنون، إذ يمكن لبعض حروفها أن تشكّل ميزة أساسية من مميزات عمل فني، وهكذا يمكن أن نلاحظ أن الأشكال المدورة لبعض حروف الكتابة الكارولنجية تتلاءم مع الفن المعماري الروماني وتحتل الكتابة القوطية المتأخرة زاوية مميزة في المعمار القوطي.
تنطوي كل كتابة بلغت درجة كبيرة من التطور على صنفين رئيسيين: كتابة تستعمل في المواسم والحفلات، تنجز بكل دقة على المباني العامة وعلى الوثائق الرسمية، وهناك الكتابة المختصرة ( cursive abregee) تستعمل عادة في الرسائل الخاصة. ينجلي البعد الجمالي طبعاً في الصنف الأول، والتطور الذي يعكس الإنتقال من الصنف الأول إلى الصنف الثاني يبدو جلياً إذ هو انتقال من الشكل التصويري الذي تعكسه الصور المرئية إلى أشكالٍ خطية يغيب فيها المنحى التصويري.
إذن الانطباع الذي يخلفه البعد الجمالي يكون رهيناً بعدة عوامل: طبيعة العلامات الخاصة (الشكل، الهيئة …) علاقة العلامات داخل النقش أو الرسم ( الوضع، المسافة بين العلامات، الفواصل، الأسطر والاتجاهات) ثم علاقة هذا النقش بالصرح الذي وضع له (النتوء، اللون، الهيئة …).
كما لا تخلو فترة من فترات تاريخ الكتابة من تواجد مدارس متنوعة تعمل على النسخ، فهناك مدرسة لآجاش التي عرفت بوضع ألواحٍ سومرية من طين تعود إلى حقبة Ur III تضمنت نقوشاً مسمارية صغيرة جداً ومدرسة بوجاسكوي التي عمل نساخها على وضع ألواح تحوي نقوشاً هيروغيلفية حيثية، لكن تظل جهود النساخ في العصور القديمة مجهولة لدينا أو تكاد لعدم كفاية البحث في هذا المجال.