لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
هل الإنسان مُخيَّر أَمْ مُسيَّر، هو سؤالٌ أزليّ يُطرح منذُ زَمن، ورغم إجابات الكثير من العلماء والفلاسفة والمُفكرين عليه إلا أنه مازال يُطرَح، ومازال الكثيرون لم يُلْقوا عليه نظرة تفحصية شاملة تحلّ لهم معضلة اللَبْس داخل العقول، وتروي نفوسهم بإجابة شافية منطقية. ولهذا سآخذك في هذا المقال لترى الصورة بشكلٍ كاملٍ وتُدرك المعاني جيدًا.
فلنبدأ؛ الكثير من الناس يظُنون في العمق أنهم مُسيَّرون، فإذا سألت أحدهم هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؛ سيحتار عقله أيهما يُصدِّق في قرارة نفسه. سترى البعض يقول: نحن مُخيَّرون ولكن مُسيَّرون وَفْق مشيئة الله، والبعض الآخر يؤمن أنه مُسيَّر وكل ما يمرّ به من أحداث هو قدر الله له فقط، فإذا كنت ترى أن هناك أحدٌ آخر يُسيِّر حياتك فبالطبع شعورك الداخلي استسلام لما أراده المُسيِّر وتواكُلٌ في كلّ شيء. وسينتج عن هذا عدم سعي في الحياة واستسلام، وأيضًا يُمكن أن ينشأ لَوْم داخلي للقَدَر الذي قادك لما لا تريد.
فهل الإنسان فعلًا مُسيَّر أَمْ أنك تعتقد هذا فقط؟
نعم.. فقط تعتقد هذا، أنت مُخيَّر وستتحمل مسؤلية الاختيار التي أعطاها الله لك. ولا تعارُض أيضًا بين كَوْنِك مُخيَّرًا وبين قدر الله لك، وسأُبْرِهن لك في باقي المقال أنه لا تعارُض أبدًا. والسبب الأوحد في هذا الالتباس عند البعض: هو الخلط بين مفهوم الإيمان بالقدر وما قدَّره الله للبشر أجمع، وبين اختيار الإنسان بين هذه المقادير. يظُنّ البعض إذا حدث له شيء ما، أن هذا قدره فقط، ولا يضع اعتبارًا لكونه أخذ بأسباب هذا القدر.
لنٌوضّح أوَّلًا الفرق بين القدر وبين اختيار الإنسان حتى تتضح الفكرة: القَدَر هو مجموعة من الطرق وضعها الله ووضع لها أسبابًا. فمثلًا وضع الله طريقًا للجنة وطريقًا للنار، ووضع أسبابًا نَصِل بها إلى الجنة وأسبابًا نصل بها إلى النار. وضع الطريقين ووضع أسبابهما، لكن أنت من يختار يأخذ بأسباب أيّ طريقٍ منهما، ولهذا ستستحق أحدهما باختيارك الحرّ. وكلا الطريقين في النهاية قَدَر الله، فالله قدّر الجنة وقدّر النار وقدّر أسبابهما.
ولنتحدث بالمنطق أيضًا على نفس المثال: كيف يَخلُق الله الجنة والنار؛ ويَخلُقك مُسيّرًا مُجْبَرًا على دخول أحدهما، كيف يكون هناك ثواب وعقاب؛ وأنت لم تفعل شيئًا بإرادتك لتستحقهما، أهذا شيءٌ يُصدَّق؟ وكيف نُصدِّق ذلك وفي نفس الوقت نؤمن بأن الله مُقْسِط ويضع الموازين القسط ليوم القيامة؟
سأذكر لك آيتين من القرآن العظيم عمّن يظن أنه مُسيَّر:
(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا). ألا يقول المشركون هنا: “لو شاء الله ما أشركنا”، ألا يؤمنون في هذا الموضع أنهم مُسيَّرون للشِّرك، وهناك فرق -كما أدركنا سابقًا- بين علم الله أن هذا الإنسان سيظل مُشْرِكًا رغم إرسال الرسل له وسيُجزَى النار بشِرْكِه وبين أن يُجبِرَه الله على الشرك. عِلْم الله المُسْبق وإحاطته بكلّ شيء لا يتعارض مع كونك مُخيّرًا وستُحاسب على اختياراتك.
الآية الأخرى من مشهدِ يومٍ عظيم: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) المستكبرون وهم مستكبرون عن الاعتراف بالخطأ حتى في يوم الحساب، يقولون: (لو هدانا الله لهديناكم)، يؤمنون أن الله لم يهديهم وإرادة الله لهم النار، فهل يُريد الله النار لأحد؟! هل يَخلُق الله أحدًا ليعذبه سواءٌ في الدنيا أو في الآخرة؟ كيف يفعل هذا وهو سبحانه كرَّمنا وأسجد الملائكة الكرام لنا، نحن خلق وصنع الله الكريم، نفخ فينا من روحه، لا يريد لنا إلا الخير.
علم الله المُطلق واختيارك
هذا كله لن يتعارض مع علم الله المُطلق باختيارك من قبل أن تختار، ولكن لن يُجْبِرك أبدًا على اختيار محدَّد. وأيضًا يُرسل الرُّسل ليهديك، ويُسبب الأسباب كي تختار طريق الخير، فإذا اخترته كانت لك الجنة خالدًا فيها، وإذا اخترت الطريق الآخر كانت لك النار جزاءً. وهذا كله يعلمه الله بعلمه الأزليّ من قبل أن يكون. فلتُدرك جيدًا أنه لا تعارُض أبدًا بين قَدَر الله وبين أن الله ترك لك حرية الاختيار في الدنيا.. وستُحاسب على اختيارك، ويعلم بعلمه المُطلق ما ستختار من قبل أن تختار. ولتحرص دائمًا على أن تختار الطريق الذي يُوصلك إلى الجنة.