لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
أخذت جولةً بعد انقطاع سنوات عن مثلها، وهي جولة أبحث فيها (بيأس في آخر مرات بحثها) عمّا يعيد الاعتبار إلى (فنّ المقالة)، كمحتضنٍ لي، قراءةً ونشرًا.
أما لماذا (اليأس) حول هذا الموضوع، فله قصّة طويلة، أحكيها لكم في هذا المقال.
في العشرية الثانية من هذا القرن الهجري، والتسعينات الميلادية من القرن العشرين، في أواخرها تحديدًا، أخذت الاهتمامات المختلفة تثير انتباهي كفتى في المرحلة المتوسطة، وحان الوقت لتلك المرحلة الجميلة التي يمرّ بها غالب الفتيان، التجريب والبحث العفوي حتى تجد شغفك والاهتمام الذي يتملكك، وبذلك التراكب العجيب من هرمونات السعادة، وكُلّ هرمون فتيّ مقبل على الحياة في جسدك، تستجيبُ للنداء، فتتدرّب بتوجيهٍ إن كنت محظوظًا، أو باجتهاداتٍ طريفة إن كنت محظوظًا كذلك ولكن بأمور أخرى غير التوجيه، وتبحث عن الأدوات والوسائل التي تعرّفك على هذا الاهتمام: ماهو؟ كيف تتدرب عليه؟ كيف تتقنه؟ وكيف تستعرض به؟
وطبعًا، بالنسبة للفتيان في تلك المرحلة المتحفّزة والساذجة (إذا خلت من الموجّه)، فالأسئلة الثلاثة الأولى يتمّ تأجيلها غالبًا، هذا إذا طرأت على بالهم، ويبقى السؤال الأخير: (بسم الله، وعلى بركة الآن، والآن كيف أستعرض موهبتي التي أنا رائعٌ فيها وكاملٌ بلا ريب منذ اللحظة التي اكتشفت فيها أنني أحبها وأريد أن أتهنّى بممارستها؟).
وبالنسبة لي، في تلك الفترة، كانت الكتابة هي الشغف، نظرًا لركام المجلات والصحف التي تمتلئ بها البيوت، وكلها نصوص، وفوق كل نصّ صورةٌ لصاحبه، وهو ينظرُ لأفقٍ ما (ولن يكون القارئ المسكين الذي يحتاج إلى عبقرية هذا الكاتب في نهاية ذلك الأفق، لذلك يبدو مشغولًا بالنظر إلى ما وراء الأمور، بينما هو في الحقيقة يركز نظره على بقعة قذرة في ستارة الأستوديو الذي يصوّر فيه قلقًا من أن يرمش بعينه أثناء لسعها بضوء التصوير)، وربما كنتُ مُوَفقًا وقتها لنصوصٍ جيدةٍ جعلتني أعشق هذه المهنة، لذا قرّرت أن أنشر من فوري، وأن أنظر إلى ذات الأفق، أو أن أنظر لعين القارئ.. لا يهم، وكانت الخطوة التالية لي وفي نظري أن أبحث عن (البقالة) التي أعطيها ورقتي المكتوبة؛ لأجدها في المجلة أو الجريدة، فلم أكن أعرف من البريد إلا اسمه، ولا من ظرف الرسائل إلا ما كان يصل للعاملة المنزلية عندنا من رسائل، وكنت أظنّ أن الطوابع التي تلتصق بالظروف زخارفَ من أهلها، كما تفعل بنات المرحلة الابتدائية في دفاترهن.
وطبعًا، كما تتوقعون، بدأت تحلّ الفكرة، وتخالط السكرة (فالسكرة لا تغادر تلك المرحلة)، وبدأت مرحلة أخرى أعود فيه إلى سؤال الاستعراض السابق (والذي كان في بداية الحماس يطرق البال سريعًا)، وأركز عليه، ثم أقولها جادًا: كيف أستعرض به؟ ثم أتأمّل كلمة (كيف)، ويكون لسان حالي: استحلفتك بالله أيها الكون: كيف؟!!
وحين تعود لأرشيف الرسائل، تستوعب شيئًا فشيئًا ما يجري، وأنّ لتلك الطوابع ملامح رسميّة، تحتاج لخطوات رسمية، ومشاوير رسمية، وبذلك أحتاج لسيّارة، وطريق، ودليلٌ يهديني، وفوقها طلبٌ صغير، وهو أن يحمل أهلي هذا الطلب محمل الجد.
وبالرجوع إلى أرشيف المجلات والصحف، وسؤال كبار المنزل، تكتشف عدّة أمور:
أولًا: تحتاج إلى ظرفٍ.
ثانيًا: تحتاج إلى طوابع.
ثالثًا: يجب أن تذهب إلى البريد، وتكتب معلومات دقيقةٍ على الظرف.
المعلومات الدقيقة أمرها سهل، سأنسخ المكتوب في ظروف العاملة المنزلية، أمّا الذهاب إلى مؤسسة حكومية، فإمكانية معرفة مكانها، والذهاب إليها بالنسبة لفتًى صغير في العمر في ذلك الوقت الذي يخلو من خرائط قوقل والثقافة المحيطة بها، مشابهٌ لمحاولة الذهاب إلى محطّة الفضاء الدوليّة، فهو في عقل ذلك الغلامِ أمرٌ بعيد المنال، جدًا، جدًا جدًا.
لكن بدا كلّ شيء ممكنًا، بالأمل، بالجانب المليء من الكوب، بصنع السيناريوهات المتفائلة في مخيلتك، سأجد كلّ شيء، ويزفني أهلي للبريد، والذي سيستقبلنا رجاله بالأحضان والابتسامات، حتى جاءت الحقيقة المُرّة التي حطّمَت مجاديف هذا الفتى في ذلك الرجوع المتكرر لأرشيف تلك المجلات والصحف، وهو أن أولئك القراء أمثالي، لا يستطيعون أن ينظروا إلى الأفق، كأولئك الكتاب، بهيئات جلوسهم التي لو أنّ الصورة التي التقطت لهم كانت أوسع وغطّت أجسادهم لظهروا فيها كتماثيل الآلهة اليونانية، لكن مستترين قليلًا.
أما القراء، فليس لهم إلا صفحةً مدفونة بين الورقات الأخيرة، تبدو فيها كحيٍّ عشوائي أسفل المدينة، ويظهر فيها القارئ كأشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على صاحب تلك الصفحة ألف مرّة أن ينشر له مرتين ما استجاب له، وحتى صور القراء التي تآزرت الظروف والحظوظ على الموافقة على نشر كُليمةٍ في تلك الصفحة، يبدون فيها كمطلوبين أمنيين، ينظرون إلى عينك مباشرة، يبدو عليهم الانكسار، كقطةٍ مذنبة، ينتابك الشكّ أنّ صورهم موجهة لمحرر الصفحة، ففي عيونهم استجداء، وفي ملامحهم توسّل.
ثم تتأمّل تلك الصفحة، وذلك البصيص من الأمل، فتجد في زاويته مقالةً مهيضة الجناح، ومع أنها مطبوعة، إلا أن الإحساس ينتابك بأنّها مكتوبة بيد مرتعشة، تكاد تقرأ بين الأسطر استجداءات كاتبه بنشر هذا المقال، وغالبًا ما تشكّ أن فقراتٍ كاملةٍ حُذِفَت، حيث إنّ محرّر صفحة القراء في ذلك الزمن كان هو البقيّة الباقية من فلول مُلّاك الرقيق وسوق النخاسة، فيتصرف في المقال بما يشاء، ويَسِمُه بوسمه الشخصي، والذي يُقال في الأساطير أن ذلك الوسم مشابهٌ لأيقونة مَسْحِ التنسيق في المحررات المعاصرة، والله أعلم، إلا أنّه يَمسح شخصية الكاتب، ولغته، ونواياه، وعنوان مقاله، وفلول كرامته، ولا يُبقي إلا المادة الخام للمعنى، وحتى هذا المادة، يتم تفتيتها وقصقصتها وتحطيمها، ولولا بقيّة من إنسانيّة لديه لأبقى العنوان، ووضع تحته الصورة، وجعل طفله يرسم ما يشاء عليها، واكتفى بهما.
أمّا المقال الثاني الذي يجاور هذا المقال، فغالبًا ما يكون محجوزًا للعلاقات العامة، ينشر فيه المحرّر مقالات وأشعار أقاربه، وأصدقائه، وخالاته، وزملائه في العمل، وعامل البقالة، والعاملة المنزلية لديه، والشخصيات الغريبة التي تظهر في أحلامه، لذلك لن تجد فيه صورة غالبًا، لأن المساحة متاحة لمقالهم كاملًا، فإذا وجدتها، فستكون صورةً مبتهجة لكاتبها، يبدو فيها مزهوًّا بعلاقته الوثيقة بمحرر الصفحة التي يتابعها الملايين، وفي نظرته تلمح شماتةً منه بعموم القراء الذين لا قرابة لهم أو علاقة بهذه الشخصية العظيمة.
أما بقيّة الصفحة، فسلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم، كلها سياطٌ متنوعة يلذع بها المحرر رقيقه من القراء، زجرٌ وصراخ، صفعات واحتقار، وقهرٌ للرجال والنساء والشيوخ، كأنها نافذة من جهنّم، هولوكوست جماعي، إهانات متفرقة، كأنك تتابع مهرجان (رويال رامبل) الخاص بالمصارعة، لكن النتيجة متوقعة كل مرّة، والبطل واحد.. وثابت.. ومستمر.
ترى فيها صفًّا من القراء، كل واحد يتقدم ليتلقى صفعته: (الخط غير واضح)، (مقالك لا يصلح للنشر)، (الموضوع أخذ كفايته من الكتابة والنقاش، لن نعيد النشر حوله)، (الأسلوب يحتاج إلى إتقان).
بل وتزداد الصفحة غموضًا وإثارة، فتجد جُملًا من مثل: (م.ح هذا الموضوع يحتاج إلى عمقٍ دافئ)، من هو م.ح؟ وهل المحرر هو نفسه ذلك الشخص الذي قتل تلك الرسامة بجُملة (ينقصك العمق)، وكيف نلبّي هذه الحاجة؟ ثم من هو م.ح، ولماذا النقطة بينهما؟
إذن، بعد كل هذا، ستعرف أخي القارئ أنّ النشر في ذلك الوقت كان مصيبةً من المصائب، لذلك، أترى كلّ هذا الركام الجميل، والإبداع العظيم الذي ننعم به اليوم في الشبكة العنكبوتية؟ كان مصير كل هذا دفاتر المذكّرات، ذات الأقفال المُذهَّبة الصغيرة عديمة الجدوى، والتي من الممكن أن تفكّها أختك الصغيرة بخنصرها الصغير، وتقرؤه، وتعايرك به سنةً أو سنتين، وتبتزك ببعض ما فيه من أسرار وأفكار، ولهذا ضريبة من المشاوير والخدمات، من البقالة.. مرورًا بالمطبخ، وستسمعون عن البقالات كثيرًا في هذا المقال.
وفي عام 1422هـ – 2001م، عَلِمْتُ أن هنالك مقهى انترنت افتتح قريبًا من منزلنا، أصدقكم القول أنني حين استعدت جملة (مقهى انترنت) تعجبت من المسمى، كما أتعجب من أشكال الهواتف الكلاسيكية في المتاحف، كأن بيننا وبينها سنوات ضوئية، على أية حال، علمت كذلك أن سعر الساعة 25 ريال (7 دولار تقريبًا)، فأخذت أجمع المصروف، وأنا مستوعبٌ بما تعنيه كلمة (انترنت) بفضل المجلات والصحف التي كانت تتحدث عن هذه (التقنية القادمة لعالمنا العربي) وكأنها تتحدث عن الصحون الفضائية، والكواكب المأهولة، ثم ذهبت للمقهى حين اكتمل لدي ما يكفي لقضاء ست ساعات، وجلستُ أمام شاشة الحاسوب وأنا لا أدري كيف أدخل الشبكة، وقد كنت وحيدًا في ساعات الصباح، لذلك أخذت راحتي وسألت العاملَ فأعطاني نظرةً لا زالت تحيّرني، وقد بقيت هذه النظرة تظهر لي في الشخصيات المخيفة في كوابيسي على اختلاف أعراقها وجنسها وخَلقها!، ثم أخبرني عن قوقل، وكيفية البحث فيه، وأعطاني حكمة عظيمة، وهو أن الانترنت وسيلة تنفعك أو تضرك، وبما أنني مراهق وقتها، ولم أكن أحبّ الحكمة، كان ردي: (ما في حل وسط؟) لم يبتسم بطبيعة الحال، وإنما أعطاني تلك النظرة مرّة أخرى ثم ذهب لحال سبيله.
دخلت، وتأملت موقع قوقل، ذلك اللقاء الأول بين عينك وصفحة الانترنت لا توصف، نحن من جيل سَعِدنا بالكثير من لحظات اللقاء الأولى أمثال هذه، والتي لم يسبق مثلها مع البشرية حسب تاريخها المكتوب، من هذا اللقاء، ولحظة تحسس شاشات اللمس، وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي دخلت في حياتنا، وكانت دهشة الانطباع الأول نشوة لا تتكرر.
وكان أوّل كلمةٍ كتبتُها في قوقل هي اسم مدينتي، (رفحاء)، وظهرت نتائج البحث بعد خمس وأربعين دقيقة تقريبًا، ولم أجد إلا موقعين يرتبطان بالمدينة، الموقع الأول يتحدث فيه عن مخيم اللاجئين العراقيين القريب من رفحاء، كأنه تقرير صحفي، أما الموقع الثاني فشيء يقال له منتدى، دخلته، وتأملت -بعد خمس وأربعين دقيقة أخرى-، وكانت اللحظات التالية لفتح الصفحة عبارة عن تجارب جديدة متتابعة كل مرة، التصميم، النقرات، الانتقال، صحيحٌ أننا نستخدم هذه السمات في أجهزة الكمبيوتر قبل الانترنت، لكن لا شيء من ذلك يشبه إثارة تصفح المواقع، وكانت فكرة الموقع -حين بدأت أستوعبها- صادمة لي، خصوصًا حين قرأت جملة (التسجيل مجانًا) وكان هذا التسويق الطريف منتشرًا في المنتديات وقتها، وعرفت في الساعة السادسة من تصفحي، أن هذا موقع يجتمع فيه أناس من مدينتي، ويحتوي على أقسام واضحة المعنى:
- المنتدى العام
- منتدى الشعر والأدب
- منتدى العلوم والتقـنية
- منتدى الطب والتغذية
ويكتبون فيه مقالات عن مواضيع شتى، ويشاهد المقال المئات والآلاف فيما بعد، ويردون على بعضهم بالثناء، أو الاعتراض، أو نحوه، وفي أعلى المنتدى وجدت مكتوبًا (تحيّة للعضو فلان)، وهنالك أوسمة توضع تحت اسم الكاتب، ونحو ذلك مما كان كافيًا لتآزر هرمونات الجسم إيّاها، لتحتشد وتحثّ عقلي على الرغبة الملحة بالتسجيل والكتابة، فلما نقرتُ على أيقونة التسجيل، فرحت لسهولة ما فُتح أمامي من خانات للتعبئة النصية، لقربها من سِمَات الحاسوب، فكتبت اسم المستخدم، لكني اصطدمت بشيءٍ ما ذي اسم غريب، لم يمرّ عليّ في حياتي، لكن مان شرطًا للتسجيل في الموقع، فأحسست بذات الغصّة التي أحسست بها حين علمت بوجوب ذهابي لمؤسسة البريد كي أرسل رسالتي، وبدأت أفكر بدفتر المذكرات الذي صار كمنديلٍ مستهلك، أضعه تحت المخدة، الذي يفترض أنه مخبأ سري، لكن يتداوله أهل البيت والجيران ويُقرأ على عجائز الحي، وربما ترجمه عمّال المنطقة لأهاليهم كلٌ بلغته، فانتفضت وقررت أن أثور على نظرات عامل المقهى السابقة، وذهبت إليه وقلت: أنا دخلت عن طريق ذلك الشيء الذي يقال له قوقل، ودخلت شيئًا آخر يقال له منتدى، وأريد الآن التسجيل فيه، ولكنهم طلبوا مني شيئًا غريبًا يقال له البريد الإلكتروني.
فتوسّعت عينا العامل، وفغر بفاه، وأشار بيديه للخلف باسطًا كفّيه كأنّه ينفض الارتباطات السخيفة ليقبل على هذا الموضوع المهم، وقال لي، بجملةٍ كلّ كلمةٍ منها يشدّ فيها بضعة ثواني: “أوه يا حبيبي، هذا موضوع طويل، يحتاج لعمل، لكن ممكن أتفرغ اليوم لأعمله لك” والتفت بنظره نحو الخارج، وأطلّت أذنه عليّ تنتظر السؤال المتوقع.
(وكم سيكلف؟) رميت السؤال المنتظر عليه، فذكر لي المبلغ، والذي لن أخبره لكم لأني لن أذهب للبقالة ولا للمطبخ لأجل ابتزازكم، فقلت (جهّزه لي غدًا)، فألقى ببصره نحو الأفق ذات نظرة أولئك الكتاب، وكأنه يفكر بعمق، وقال: (امم.. نقول إن شاء الله، لا أعدك.. لكن إن شاء الله أنه سينتهي غدًا)، فذهبت إلى المنزل وأنا كبركان ثائرٍ حماسًا وإثارة، ولم يكن الوقت وقت جمع مصروف، بل ذهبت لوالدي رحمه الله تعالى، وأعطيته نظرة ذات الأشخاص في صفحة القراء التي وصفتها قبل أسطر، فأعطاني جزاه الله خيرًا ورحمه ما يكفي وزيادة، ثم ذهبت للعامل، وكان عنده ما يبدو أنه صاحب المقهى، فقلت له: (انتهى الإيميل؟) فارتبك، ثم قال، ادخل أحد الكبائن، وأنا سآتيك به، فذهبت وأنا لا أدري والله ما سيأتيني به، هل أخرجه لي من ماكينة؟ أم هو مجلّة تشترى، أم سي دي؟
وبعد دقائق جاءني بورقة مكتوب فيها اسم الإيميل والرقم السري وموقع الإيميل، ودفعت المبلغ شاكرًا ومقدرًا وأخذه وعينه تترقرق، فلا أدري والله لليوم ما سبب رقرقتهما، أكان ضميره يؤنبه على هذه الدراما، أو أنها ضحكةً مكبوتة بصعوبة.
فأدخلت الإيميل، وفعّلت التسجيل، ودخلت سريعًا وأنا في بالي شيء واحد: هل سيوافق المحرر على مقالي؟
وبعد ساعتين من التسجيل ودخول الموقع، رأيت جملة (كتابة موضوع) أو نحوًا منها، فنقرتها وانبهرت -بعد خمس وأربعين دقيقة كذلك- بما كُتب فوقه وصف (صندوق الكتابة)، وكنت محظوظًا للغاية وقتها، وموفقًا، أن يكون الموضوع الذي طرأ في بالي وقتها ثناءً مجردًا وتمجيدًا لله تعالى، ولا زلت أرجو منه بعد رحمة الله ما لا أرجوه من غيره مما نشرت، وكنت محظوظًا كذلك أنني كتبته بأسلوبي وبأفكاري وتعبيري الشخصي، بالغ البساطة حينها، وحين انتهيت، ذهبت لأيقونة أضف الموضوع وأنا كلّي رجاء أن يخفف المحرر وطأته علي، ويوافق على نشره، ولا يحرجني أمام الناس، فلما نقرتها، تفاجأت أنّ الموضوع قد نُشر مباشرة، فانبهرت كثيرًا، بدرجة لا توصف، وبنشوة لا زال من السهل علي استعادة ذكرياتها، ولم يَفُق نشوة هذا النشر السريع، إلا البهجة بأوّل ردٍّ علي، وكان ثناءً كبيرًا وترحيبًا حارًّا ودعوات لي بالتوفيق (اكتشفت فيما بعد أنه رد مكرر، يُنْسخ ويُلصق، لكن المهم الأثر يا إخوان)، بالإضافة إلى انبهاري بأرقام المشاهدات، والتي كان ثلاثة أرباعها من تكرار عودتي لموضوعي.
أذكر جيدًا أنني قلت حينها، بل وكتبت في تلك الفترات حول انتهاء كابوس (مقالك غير صالح للنشر) ولا كرامة، ولا مزيد من دفاتر المذكرات، ولا الأقفال المذهّبة الصغيرة، ولا مشاوير المطبخ، وابتزاز أهل البيت، وكان الأمر كالحلم، وانتشرت المنتديات المتنوعة انتشار الربيع المزهر بعد الوسم الممطر، من منتديات ارتبطت بأسماء المدن؛ لمنتديات ارتبطت بأسماء التخصصات، لأخرى ارتبطت بأوصافٍ منها ما ارتفع بأهلها ونفعهم دنيا ودين، ومنها ما كانت لهوًا ولعبًا وهباءً لم يبق منها إلا الذكريات، وبعضه لسوء الحظ بقي منه الذنب والإحساس بالعار.
وبقيّة القصّة عن تراجع المنتديات ومعركة التدوين ومواقع التواصل كتبتها في مقالي [ ذكرى 10 سنوات ].
المهمّ أنه في نهاية الأمر، وبعد كل ذلك المحتوى العظيم، والورشات الكبرى التي أخرجت متخصصين ونافعين ومنتفعين ليومنا هذا، وجدنا أنفسنا قابعين في زوايا مواقع التواصل الاجتماعي، يتابعنا قلّة من القوم، يصادفون تغريدة لنا كل 3 سنوات، حيث أن غالبهم يتابع الكثير، وكل واحدٍ من هذا الكثير يغرد من تغريدةٍ يتيمة وحتى عشرات التغريدات خلال ساعات، فتتراكم نهاية اليوم حتى تصير تغريدتك التي نشرت فيها خاطرة أو رابطًا لمقالك كإبرة في كومة قش.
إنّ مواقع التواصل الاجتماعي للمشاهير، ونيل الشهرة نادر بين الناس، ولذلك لم توفّر مواقع التواصل الاجتماعي الحيوية التي وفرتها المنتديات، ولا قريبًا منها، فالمنتدى المميز يضمن لك الجمهور، ولا يطلبُ مِنْك إلا جودة البضاعة، أما موقع التواصل فأنت مكلّف بجمع الجمهور بأجود ما عندك، ثم إذا حصل هذا الهدف بعيد المنال، استعرِضْ بما تشاء، الفكرة كلها مثيرة للاشمئزاز، أن تصرف دَمَ قَلبك كما يُقال لتجمع الناس، وحين يجتمعون تكون مرهقًا ولست كما كنت، هذه الفكرة -إن كنت محظوظًا بحصولها- تأكل العمر القصير، فلا مجال أساسًا للمحاولة والفشل فيها، ولست في تلك المواقع بعد كل هذا الإحباط إلا رقمًا ينفع أرباح تويتر من الإعلانات، وانتفاع الموقع منك، أكثر من انتفاعك به.
بينما في تلك السنوات الذهبية للأنترنت، تدخل منتدى كمنتديات العواصم في بلدتك، فتجد آلاف البشر، وتسجل، وتنشر مقالك فيها في ذات اليوم، وكذلك في عشرات المنتديات في دولتك، وفي دولٍ أخرى، بتنسيقٍ موحّدٍ للمقال ترحّب به كل المنتديات، وتحته رابطٌ لموقعك، وخلال سويعات ستجد الآلاف قد قرؤوا المقال، ومئاتٍ قد علقوا عليه، في نشاطٍ لا تمنحه مواقع التواصل حتى لغالب المشاهير فيها، لا من ناحية التفاعل ولا التنسيق.
كان نعمةً.. وحُرِمَ أهل القلم منها.
فلمّا جاءت مواقع التواصل، لم نستوعبها، ورحبنا فيها، ورأينا من يقول: ولّى عهد المنتديات والمشرفين.. إلخ، ومرت السنوات، وذهب حماس البدايات مع وضوح حقائق ما يجري معنا في مواقع التواصل، وذبلت كل الزهور التي نبتت في تلك المنتديات، وخوت مواقع التواصل من معارفك، وصاروا مجرد أرقامٍ كانت هنا، وهذا أمرٌ طبيعي، فانقطاع التفاعل أو قلته أو تكراره من ذات الأشخاص الذين يستمتعون بدايةً بطرحك ثم يجاملون ثم يملّون، سِمَةٌ في مواقع التواصل، بينما لم يكن هذا الأمر موجودًا في عالم المنتديات، حيث التنوّع، وضمان التفاعل دائمًا، والسيطرة على الجوّ العام، كانت المنتديات النشطة والمميزة خلية نحلٍ لا تستطيع أن تتدارك فيها التفاعل بالردّ، فيشكر (الشخص العادي المبدع) جميعَ من تفاعل مع موضوعه في ذلك الوقت، تمامًا كما يجمع المشهور اليوم كل متابعيه بشكرٍ واحد لصعوبة الرد على الكل.
فضلًا عن الكسل وارتخاء لياقة الكتابة بسبب القيود عليها في مواقع التواصل، لا من ناحية عدد الحروف (تخيّل أن تحصر جيلًا كاملًا من المبدعين بعدد حروف لا كلمات ولسنوات!)، ولا من ناحية التنسيق المقرف، حتى اضطرّ أهل المقال للتحايل، فنشأت مواقع وسيطة تُنشر فيها المقالات وتُشارك روابطها، كتويت ميل، وغيرها، لكن فات الأوان حينها، فالجماهير التي كانت تدخل كل مقالٍ وتتفاعل فيه في المنتديات، ليست بذات الحيوية التي كانت عليها، وذلك بسبب التأثيرات المتراكمة للقيود عليهم.
لذلك -كما ذكرت في مقالي الذي وضعت رابطه- فَشلت تلك النهضة الخفيفة التي حصلت في الفترة التي أسميتها جمهورية التدوين الثانية، والتي جاءت بعد 2007م، لأنّ مواقع التواصل فتكت بها سريعًا، ولو أنّ المدونين عضّوا على هذه الوسيلة بالنواجذ لكان لها شأنًا أعظم في وقتنا، كما هو الحال في مجتمع التدوين باللغة الإنجليزية.
وقد بدأتْ في تلك المجتمعات الأجنبية أنشطة تخصّ كتابة المقالة والتدوين والكتابة بشكل عام، متصلة بنشاطٍ عادلٍ لا يتوقف في الواقع، وأبدعوا في أفكارهم التجديدية عن الاستفادة من الشبكة، وكنت أنتظر منذ عقدٍ من الزمان استيرادها إلينا على أحرّ من الجمر، لكن ذلك تأخّر كثيرًا، صحيحٌ أنه كانت تتراءى لي ومضةٌ هنا وهناك، ولكن الأمر لم يصل إلى درجة تسميته نشاطًا ثقافيًا، أو حتى بدايةً جادةً مستمرةً لمثل هذا النشاط.
وكان مُدهِشًا، كما ذكرت في مقالي [ اتفاقنا مع الكون ]:
انتقال نجوم اليوتيوب إلى عالم التلفاز، وتبعثر أشهر كتاب المنتديات في الصحف الورقية، نعم.. انتقلوا من المستقبل إلى الماضي، ومن العصر الجديد.. إلى العصر البائد (كما هو مفترض!) فبدأت تظهر بعض التساؤلات منهم، والشماتة من رواد الصناعة القديمة، وكذا الأمر مع الكتب التي كان يفترض أن تزول، ولكن رأينا معارض الكتاب تزدهر، والمؤلفين الذين يصدرون أسفارهم في الكتب الورقية يزدادون، ودور النشر الفتية تنتشر، إذا غضضنا الطرف عن موضوع الجودة في بعضها.
وخلاصة كل هذا الأمر، أنني وجدت نفسي -بداية العقد المنصرم- أمام شاشة الحاسوب، “أُبَحلق” في الـ (مستند1) لتطبيق Word على سطح المكتب، أو مدونتي الخاوية على عرشها، أو إذا طلبنا الدقة فهي خاوية (على هيدرها!)، تمامًا كما كنت أجد نفسي أمام مذكرتي ذات القفل قبل 25 سنة، أكثر أمانًا من تربّص أختي، لكن أكثر خوفًا من فقدان ملفّها بسبب الفيروسات أو العطب أو الاختراقات ونحوها من عوارض التقنية، ومتأملًا رسائل (نعتذر عن نشر المقال) التي عادت وذقت مرارتها ولكن عبر البريد الإلكتروني، ولله الحمد والمنة على كل حال.
ومحبطًا من هذه التحوّلات خَفَت الشغف شيئًا فشيئًا، وذهبت تلك الأيام التي أكتب فيها كل يوم، لتصير كتابةً كل سنة تقريبًا في المدونة، وروايةً يتيمةً حَمَلت همًا شخصيًا كمعلّم وقارئ هاوي في علم النفس يبدو أنها ستصير كل جيل، وتغريدة كل 9 أشهر، ربما تنتج هذه الأشهر التسعة توأمًا لهذه التغريدة، أقول ربما، وكانت تلك السنوات من بداية الألفية، التي تنتظر فيها دقائق طويلة لتفتح الصفحة، أكثر بركةً وإنتاجًا من زمن الـ web 0.2 وتطوراته، ولكن حصل أمرٌ ما غيّرَ -أو في الطريق لتغيير- كل شيء.
في الحقيقة هي عدّة أمور أعتقد أن لها دورًا في بدايات التغيير الحاصلة:
1. المال:
وحبيب الناس من أطمعهم *** إنما الناس جميعاً بالطمع
أعتقد أن تحسينات إعلانات قوقل – اللغة العربية، وتزايد الشروحات والدورات التدريبية عنها؛ كان محفّزًا لكثير من الشباب العربي لاقتحام مجال الكتابة بشكل العام، فلا أعظم في نفوس عموم الناس من المال تحفيزًا ودفعًا لسيرهم الذاتية، فالمال يتكفل لك بجمعهم، وحصول الشغف سيتكفل به تدريبهم وممارستهم وحماسهم والتي أذاقت عشرات الآلاف منهم لذّة الكتابة، ونشوة الإنجاز فيها، فكانت مسألة وقت حتى تظهر المواقع التي تُبنى فكرتها على هذا المجال من هذا الجيل الفتيّ، وهذا ما كان.
فالتصميم المناسب لاشتراطات قوقل، والمحتوى الأصيل المتجدد المستمر للمدونة أو الموقع، يضمن لك مع مرّ الأيام دخلًا لا بأس به، من جانب محركات البحث، ومثل هذا محفّزٌ على الاستمرار، لسنوات، كما أنّ التعمق في تطوير المدونة نحو الأفضل بالكلمات الدلالية يصبّ عليك أفكار المقالات صبًا، فلا يجد الإنسان معها حُبْسةً ولا جدبًا، إلا ما يعرض لكل الناس، لا انقطاعًا مَرَضِيًّا.
2. عودة المُحْتَضَن
ظهور مواقع الهدف منها جمع الكتّاب، ضمن اهتمامات مختلفة، الأمر مشابهٌ لفكرة المنتديات، لكنها عودةٌ أكثر تطورًا وتغييرًا في الإخراج والوسيلة وتكوين الفرق والإدارة، بدا وكأنه عملٌ مؤسساتي مربح، وأكثر احترافية من عشوائية كثير من المنتديات، والتي تقف عند تأسيسها وبعض التطويرات الشكلية، وهذه لا تعد ولا تحصى، بعضها مفتوح المشاركة، وآخر مفتوح بشروط مرنة، وأخرى بشروط متشددة، ومن أمثل هذه المواقع: زد، ومقال كلاود، وإنوان.. وغيرها، ولم أر موقعًا احترافيًا ومستمرًا على وتيرة من العمل الدؤوب والجاد مثل زد، ولا أدري عن وجود مواقع أخرى.
3. المحتضن الجانبي
وهي مواقع ذات اهتمامات لا علاقة لها مباشرة بالكتابة، لكنها وفّرت زاويةً للكتاب، وفيها أقسام تناسب اهتماماتهم المختلفة، أي أنها مشابهة للمواقع الماضية، لكنها تعمل كنشاطٍ جانبي في نشاط أكبر، ومن أمثلتها: حسوب I/O.. التي تبدو كحديقة يرتاح فيها المكافحون في مستقل وخمسات.
4. مواقع التواصل المهتمة بالكتابة
في منتصف إحباطي قررت أن أنهض وأرتدي القناع وأغيّر العالم، كان ذلك قبل عدة سنوات، حيث طرأت عليّ فكرة موقع تواصلٍ اجتماعي يُعْنَى بفن المقالة، ولها مزايا تخرجه عن السياق المعتاد لمواقع التواصل، وتعيد الاعتبار تمامًا لهذا الفن، ولكن بعد عدة أشهر من دراسة الموضوع وجمع المعلومات، تيقنت أن الموضوع أكبر مني؛ نظرًا لبعد مكان إقامتي عن المدن الكبرى، ما يعيق التواصل الفاعل مع الشركات والشخصيات، لذلك وضعته على الرفّ، وعدّت أشكو الجدب.
وقد ظهرت مواقع تواصل عربية، أو ما هو شبيه بمواقع التواصل، منها موقع اكتب الذي رَبَطَ حسابات تويتر وفيسبوك به، مع إمكانية المتابعة الشخصية من داخل الموقع، ولا زال فاعلًا، لكن على ضفاف مواقع التواصل الشهيرة، مجرد مكان تكتب فيه مقالك وتنشر رابطك هناك، فلا مجال للتعليق داخله، وليس تواصلًا بالمعنى المشهور عن مواقع التواصل.
والآخر، هو تطبيق قلم، وقد بدأ بدايةً مشجعةً، لكنه افتقد للمساتٍ ومزايا تجعل تلك البداية تستمر، فلا نريد ككتابٍ أن نرى موقعًا مشابهًا لتويتر مع زيادة في الأحرف فقط، لا ميزة في ذلك، بل هو محبطٌ وممل، فالناس لن تدع تويتر لأجل ميزة اصطفاف الكلام في جَسَد مقال واحد، بل ستقتنع -إذا كان هذا هو الخيار الوحيد المتاح- بما جَمَعَتْه من تويتر من متابعين، وبنظام سلسلة التغريدات الذي “يمشّي الحال حتى حين” وإلى أن يأتي ما يرغمهم بمزاياه على الذهاب إليه، ولهذا مات ذلك التطبيق واقفًا.
وهذه -يا إخوان- كانت مقدمةً قبل البدء بموضوع المقال وعنوانه، والذي بدأ كملاحظة قديمةٍ في تويتر، كتبتها يومًا ثم حذفتها، لأنها قد تمس بعض من يتابعوني من المعارف؛ والمتابعون لي قليل، فقررت أن أحذفها، لأنهم سيظنون أنني أقصدهم، وأنا في الحقيقة أقصدهم، فأنا أتابعهم بالمقابل، لذلك قررت أن أحذفها قبل أن يمسكوا تلابيبي ويقولون (فك.. وأفك).. فـ (فكيتها) منذ البداية.
وقد قلت ساخرًا في تلك التغريدة أن تأثير (علي طلال) وصَحْبه في أساليب الكتابة عند غالب المغردين في تويتر أكبر من تأثير الجاحظ والعقاد وطه حسين وعلي الطنطاوي.
وعلي طلال وصَحبه مجموعةٌ من الشباب الذين ترجموا غالب الأفلام والمسلسلات، ولا أدري صراحةً عن تفاصيل عملهم، وهل استمروا أم لا، ولا أهتم، لكنّ أسماءهم تكررت كثيرًا عند محبي الأفلام، وكذلك تراجمهم عن الأفلام يتم تداول جملها المنتقاة في مواقع التواصل، وعلى أية حال، لم يكن هذا الشخص وزملاؤه مقصودين بالضرورة، لكن المقصود أن الصفحة الرئيسية في تويتر، وانستقرام تحولت عندي وكأنها جمل متتابعة من فيلم سينمائي من ناحية الأسلوب، فهذا الأسلوب قطعًا ليس أسلوب المؤلف أو كاتب السيناريو؛ لأنه كُتب وقِيلَ باللغة الإنجليزية، بل هو أسلوبُ المترجِم، وعلى هذا، وبسبب هذا الهوس بمتابعة الأفلام والمسلسلات، كان لا بدّ أن يظهر أثرهم على الكتاب والكاتبات، بل أعتبره أسّس لأسلوبِ جيلٍا كاملٍ كثير منهم، تمامًا كما يقرأ الشابُ لأديبٍ ما فيتأثرُ به، ولا يستطيع الانفكاك عنه عمره كله، وإن خفّف من وطأة التأثر أحيانًا، لكنه قُيّد إليه منذ تلك البدايات، لأن أثر تلك المراحل كالوشم.
مع التنبيه على أن الترجمة التي أقصدها تختلف كثيرًا عن أساليب المترجمين المتقنين من الأدباء العرب الذين يضيفون لمستهم البلاغية والأسلوبية عليها، فتبدو قطعًا أدبية جميلة بلسان عربي مبين، وإن كان ذا مزايا تُخرجه عن الكتابة العربية الأصيلة، دون أن تقدح فيه عند البعض.
على أيّة حال، كانت هذه هي البداية، ثم رأيت الوصايا المتكررة حول ما اصطلح على تسميته (كتابة المحتوى)، ورأيت تطبيقاتها من الشباب الذين يتدربون عليها بكل حماس، إلى الذين سلكوا طريقًا معها حتى صاروا خبراء يلقون بالنصائح حولها.
أنا أعلم أنني بإدخال كلمة (الترجمة) في السياق قد وطأت منطقة اشتباك حتى داخل أروقة المترجمين، لكنني هنا لا أتحدث عن نصٍّ مترجم، وأساليب الترجمة ونظرياتها؛ بل أتحدث عن التأثيرات الجانبية لنوع محدد من الترجمات، والتي يبدو أنها لم تعد جانبية، أو في الطريق إلى ذلك، وهذا التأثير تنبه إليه أهل الأدب قديمًا في دراستهم لتأثيرات حركات الترجمة في العصر العباسي، والعصر الحديث، ولكني أتحدث عن أمرٍ آخر مستجدّ على عالم التدوين، وهو تأثيرٌ مختلف، لم أطلع على مثله فيما قرأت من ترجمات، ولا في الأساليب الإنشائية الحديثة، العريق منها، وما اطلعت عليه في بداية الألفية، بل وفي بداية العقد المنصرم.
وأزعم أنني أفهم كون (كتابة المحتوى) ارتبطت في الأصل بباب رزقٍ تطلب فيه الشركات خدمات كتّاب محتوى لملء مدوناتهم بالقصص والتقارير، والتي صارت أساسًا مهمًا في مواقعها، فهي كتابة تسويقية في أصلها، لكنها تطورت وامتزجت بأساليب الشروحات التقنية، وتراجم الكتب الأجنبية المتخصصة في تنمية الذات، والتدوين الكلاسيكي، لا أدري، هذا ما تراءى لي من متابعة ذاتيةٍ عامةٍ لما يجري، وليست دراسة تشخيصية بالطبع، وعلى أي حال، هذه المُبَاشَرة في كتابة المحتوى تسللت إلى الكتابة الذاتية، والتجارب، وكانت قراءاتي في هذا النوع من المقال هو ما أثار دهشتي، ولملم شتات فكرة هذا المقال.
لم يكن من المريح أن تقرأ محتوى يفترض أن يكون ذاتيًا، لكنك تشعر أنك تقرأ مقالًا في مدونة لشركة ملابس، لا عصارة جهدٍ عن كفاح سنوات، وخلاصة تجارب، صاحَبَها ألمٌ وعثرات وقيام من جديد، ثم ترى صاحبها يتحدث وكأنه روبوت، وإذا أردت أن تحسّ بمشاعري وأنا أطالع مثل هذه المقالات (الذاتية)، فانسخ -في قِيَاسٍ مع الفارق- قصيدة التهامي في رثاء ولده، وألصقها في مترجم قوقل، ثم انقر على الناطق الصوتي للنص، لترى الصوت يصنع من العاطفة المريرة خواءً، ويجعل روائع الأدب تبدو وكأنّها نصًّا رسميًا كتبه موظفٌ مخضرمٌ ملّ من وظيفته في الصادر والوارد منذ عشرين سنة.
أنا من عُشاق نصائح 1 – 2 – 3 والتعداد النقطي في كل قراءاتي، في أي فنٍّ ظهرت لي، ولكن هذه النتيجة التي وصلت لها كتابة المحتوى ألغت شخصية الكاتب تمامًا، وأظن أنّ هذا لم يحصل من قبل حتى في الكتابات الموضوعية؛ ومن عَرَفَ متخصصًا أو خالط بعض أصحاب المسار، علمَ أنهم يعرفون أن للعلماء أساليب عرفوا بها، مع أنّ كتابتهم ذات أسلوبٍ علمي في أصلها، ولكن حتى لهذا الأسلوب على بُعْدِهِ عن العواطف ومطابقة المعنى على اللفظ؛ سماتٍ يوسم بها من كاتبه، فيصبح معروفًا به، وميّزة تجعل القارئ يتلذذ بكتاباته، وتخفف وطأة المعلومات المتتابعة عليه، لكن حتى هذه السمات لم أجدها في هذا النوع من الكتابة، لذلك كان من الرعب بمكان -ولا بأس من المبالغة- أن أمرّ على منصات مختلفة، وعشرات الكتاب، وكأننا أقرأ لشخصٍ واحد، أو روبوت واحد.
وهذا مقبول نوعًا ما في الأقسام التقنية، والعلمية (وأقول نوعًا ما لما كتبته في الفقرة الماضية)، ولكنه غريب غاية الغرابة في أقسام الثقافة والحياة ونحوها من الأمور التي يفترض أن تكون مخزنًا للعاطفة وتجليًا لحيوية الذات وفيضًا من الأحاسيس.
خمس إيجابيات في المرحلة الحالية:
- العناية بحقوق الملكية الفكرية، وتآزر المواقع الصغيرة والمتوسطة مع كبرى الشركات لتطوير هذه العناية.
- التعامل الأمثل مع التقنيات المستجدّة لتقنين إخراج المكتوب على أكمل وأجمل وجه.
- ظهور أجيال تبع شغفها من خلال إتقان الكتابة المتوسطة والمطولة، وانعتاقهم من سطوة مواقع التواصل ومحدوديتها.
- ظهور حاضنات الكتابة التي جمعت الجودة والتطوير وحُسن الإدارة.
- إمكانية الجمع بين احتراف الكتابة، والتكسّب من ورائها خارج نطاق المؤسسات الإعلامية الكبرى.
خمس سلبيات في المرحلة الحالية:
- استيراد التجربة الأجنبية لكتابة المحتوى استيرادًا نصيًا إذا صح التعبير، دون إجراء تغييرات معتبرة مناسبة للثقافة العربية وبيئتها.
- إهمال الحاضنات لبعض الأقسام الأصيلة في الكتابة العربية، كالنثر الأدبي بأنواعه: السيرة الذاتية، القصة القصيرة، المقالة الإبداعية.. وغيرها.
- ربط الفائدة بأسلوب كتابة موضوعي بحت، مع أن الكتابة الأصيلة، حتى لو لم تكن موضوعية، إذا كانت تنمّ عن ثقافة، ورقي في الأسلوب تعتبر مفيدة.
- بقاء بعض الثغرات في مسألة حفظ الحقوق، وأهمها سرقة المقالات من اللغة الإنجليزية.
- تقييد الدوافع المادية/الإعلانية للإبداع في الكتابة، والمرونة الفكرية، من خلال الالتزام الحرفي بتوجيهات الكتابة المتعلقة ببنية المقال والعناوين ونحوها، بسبب إثقال متطلبات محركات البحث، ومعايير إعلانات قوقل.
أخيرًا، هل نطقت بأحكامي هذه مبكرًا، فكان إعلانها سابقًا لأوانه؛ لأنّ التجربة في بداياتها، والثمار لم تنضج، ولم تكتمل في هذه المسيرة بوادر تميّزها؟ ربّما، وهذا احتمال ورد في بالي كثيرًا، وإني لأرجو صوابه.