لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
نحن جميعًا نمتلك عقلية القرد! هل رأيتَ يومًا قردًا على شجرة كيف يتصرف؟! يمتلك القرد طاقة هائلة للحركة، ويتصف بعقل غير هادئ، وهو في سعي دائم لا يتوقف للانتقال من حال إلى عدة أحوال في اللحظة ذاتها، لا يستقرّ على الغصن الذي يجلس عليه، يفضل التنقل بين الأغصان، لا يكاد ينهي طعامه الذي بين يديه حتى يهفو إلى آخر ربما في يد قرد غيره بمجرد رؤيته، عقل غير ثابت بالمرّة وجسد مشتعل بالحركة هذا هو القرد.الطقس اليوم بارد شديد البرودة، ماذا أفعل إن لم أذهب للعمل، هل يرتاح شريكي في علاقتنا أم أنه لا يحبني، من يمكن أن ينجز عني واجباتي، كيف أبدو اليوم أنا إنسانًا قبيحًا على الدوام، أصدقائي غائبون، اليوم أنا نشيط في العمل، ما السبب، كيف أصبح غنيًا؟ كيف أنجز العمل المطلوب خلال يومين؟ أنا إنسان فاسد، سأدخل النار، لن يرضى الله عني أبدًا أريد أن أصبح غنيًّا، أنا أخشى الناس إلخ...ملايين الأفكار التي نتجول بينها في نفس الوقت بعقولنا وكأننا نهرب من مواجهة اللحظة الحالية، ذلك الهروب الذي يحرمنا نحن البشر من التركيز والوعي والحياة الحقيقية، هذا الشتات العقلي والانتقال بين ملايين الأفكار في اليوم الواحد هو ما يجعلنا كالقردة غير المستقرّة.عقلية القرد المصطلح الذي صاغه –بوذا- من آلاف السنين هو ما يسبب ما أحب أن أسميه حالة "بؤس الشتات" تلك الحالة العقلية التي تتغذى علينا وتستهلك أفكارنا ومشاعرنا وتبددها في ما لا نفع من ورائه، وتزداد اليوم مع نمط حيواتنا المتسارع المحروم من الهدوء و التأمل والأناة، المقتول تحت وطأة السرعة والمحفوف بمخاوف السبق واللهاث وراء الحياة بينما هي تتسرب من بين أيدينا.لماذا نسمح لهذا القرد بالتحكم في حيواتنا بينا نحن المسؤولون عنها؟
"رائعة حقًّا! انظر إليه، اذهب، ها هو قلق بشأن موعدك يوم الثلاثاء المقبل، أوه، الآن صعد تلك الشجرة منتقدًا أداءك في العمل الأسبوع الماضي، ثم يذكرك أن السيارة بحاجة إلى صيانة "في الحقيقة نحن لا نملك إلا اللحظة الراهنة، فنحن فيها بين لحظة مضت وأخرى لا نضمن أن تأتي، فاللحظة إذًا تساوي الحياة وهي التي ينبغي أن نقاتل من أجل الانتفاع بها قدر الإمكان.ولا يمكن أن ننكر أننا نحتاج إلى هذه العقلية في بعض الأحيان، حين نواجه مخاوف أو نوبات قلق أو حالات اكتئاب أو لكسر روتين الحياة المملّ، وعند الحاجة إلى طفرات الإبداع والبحث عن أفكار جديدة ومجنونة، فنحن حينها نكون في أمس الحاجة بأن نقفز بأفكارنا إلى عوالم أخرى بعيدة عن ساحات القلق والاكتئاب والحزن والمناطق الآمنة المعتادة من التفكير إلى أخرى أكثر سحرًا وإثارة، ولولا تلك الشطحات لما خرج منا الأدب والفنّ.لكن ماذا لو قضينا أغلب حياتنا نقفز؟!
يمثل هذا القرد بحسب تعاليم بوذا الأنا الإنسانية، وهو ما يتفق مع الرؤية الإسلامية للنفس البشرية والتي أثْراها الفلاسفة والمتصوفة المسلمون في التراث، فالنفس على مدار العمر تحاول أن تتفلت من أي قيد لها سواءٌ كان هذا القيد فكرة يجب أن تستغرق فيها لتنجز شيئا ما ، أو أمر إلهيّ يجب أن تخضع له أو نهي تريد أن تأتيه ، فهي في صراعٍ دائم مع ذاتها !و يقرر بوذا أننا محاطون جميعًا بعقل قرد و- أنا - يتصارعان في حوارٍ داخليّ ناريّ و تغذيه المحفزات الخارجية. ونغذيه نحن أيضًا عندما نستسلم للانتقال السام من فكرة إلى أخرى ونقضي أيامنا و حياتنا في التفكير في ما ينبغي أن نفعله بدلًا من ممارسة الفعل نفسه والتركيز على إتقانه فنضيع في حياة أشبه بأحلام غير واضحة.كيف نهذب هذا القرد في داخلنا؟
قديمًا قال الإمام البوصيري في بردته : والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ ** شَبَّ على حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم. قبل أن أجيب على هذا السؤال من وجهة نظر الحكيم بوذا صاحب المصطلح، ينبغي أن أقول إن أمر ترويض النفس أو التحكم فيها وفي العقل أو الإرادة أيًّا كان المتحَّكَم فيه هو أمر ليس بسهل، و هو جهادُ الحياه للإنسان؛ الذي من أجله نزل إلى الأرض، ولهذا فإن تعاليم التصوف مثلًا في كافة الأديان –ومنها البوذية– قد عملت على تقويم وترويض هذه العقلية لكي تحجم من بؤس هذا الشتات البشري.أوصى بوذا بعدة توصيات منها:
- تتمثل الخطوة الأولى للعيش بشكل ودي مع عقلك القرد في إدراك أنه موجود، وأنه جزء منك ولكنه لا يحدد هويتك ولا يحتاج إلى أن يؤدي إلى المعاناة في كل مرة يتأرجح فيها عبر غاباتك.
- ثم إن تحاول أن تقفز فوق هذا العقل بدلًا من أن تقفز بأمر منه عن طريق عمل الكثير من جلسات التأمل والصلوات والتركيز على شيء واحد فقط اللحظة الراهنة.