لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
قد عرفنا من
المقال السابق أن دوستويفسكي قد اختار لروايته مذلون مهانون كاتبًا مشاركًا في الأحداث، فهنا سنعمل على معرفة كيف صيغت هذه الرواية، وكيف أن صياغتها مبنية كلها على وجود هذا الكاتب. وأنبه أني أستعمل "كما عرفنا" المعلومات التي تعتمد على المقال السابق.
تاريخ الكاتب
الكاتب –كما عرفنا– يتيم نبيل لا يملك مالًا، سافر إلى بطرسبرغ ليكمل تعليمه، ولكنه اتجه إلى الرواية، كان يحلم –كما حال الناس في زمانه– أن يصير كاتبًا مشهورًا تقرأ رواياته العظيمة، وتعطيه الكتابة قوت يومه، ويتزوج حبيبته "ناتاشا" ويعيش سعيدًا، فنتيجة لتفضيله العمل الروائي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، كما قال: إن نتيجة هذا كله هو أنني الآن في المستشفى وأنني قد أموت عما قريب.ونتيجة لنبله أيضًا، لانتصاره على نفسه –كما عرفنا– ومساعدته حبيبته وأهلها الذين هم جميع محبيه، أنهم رحلوا وتركوه فيقول: أنا الآن متمدد في سرير بمستشفى، وحيدًا مهجورًا من جميع الذين طالما أحببتهم.. فهو يقول إنه يكتب يومياته الآن وهو في المستشفى، يومياته الذي أنقذ فيها حبيبته وأهلها من الهلاك. هي رواية مذلون مهانون لدوستويفسكي.
تأثير تاريخ الشخصية على صياغة الرواية
الكاتب يقول عن تاريخه هذا: إن تلك المشاعر الماضية تقلقني إلى حد العذاب، العذاب الكاوي، فإذا جرى بها قلمي على الورق ترتبت وتطامنت وأصبحت أقل شبها بالهذيان منها الآن. هنا الكاتب كتب دافع كتابته اليوميات، ونحن بناء على تاريخه، نفهم أن أسفه الشديد على ضياع ما كان يتمناه وحاله الآن، أيْ: يريد تذكر تلك الحياة التي أنقذ فيها الجميع، التي كان محاطًا فيها بهؤلاء وذا قيمة.ونحن نراه خلال الرواية يفسر الأحداث والشخصيات وهي تجري، ويساعدها. فهذه الرواية أو اليوميات هي رؤية الكاتب لنفسه القديمة. وعلى هذا يمكننا فهم صياغة الرواية.
دخلة الرواية
الكاتب في بداية الرواية وضع نفسه في حدث، في مقهى يدخل على الجالسين فيه رجل معه كلب، كهل لم يترك له الموت إلا جسدًا باليًا، يتحرك حركات آلية. فجأة يموت كلبه، فيهرب هو من المقهى فيسرع الكاتب وراءه، فيجده ولكنه يموت علي يديه ويتلعثم قائلا: الشارع السادس، فيعرف بعد هذا أن البيت الذي مات أمامه الكهل هو بيته، ويندفع الكاتب يسكن في منزل الكهل ليفهم هذا الرجل الغريب.الكاتب يقول إنه لا يدري لماذا وضع هذه البداية وأنه كان يجب أن يبدأ يومياته قصته من أولها فبدأها من منتصفها، ولكن هذا الكهل هو جد ابنة الأمير –المقال السابق– وهو الذي لعن ابنته لأنها هربت مع عشيقها وسرقت مال أبيها لأجله، فهجرها حبيبها وصارت في الشوارع هي وابنتها حتى فنيت المرأة، ولم يَعْفُ عنها أبوها. فكما عرفنا، إن هذه الصورة هي الصورة النهائية التي كان من المفترض أن تصل إليها "ناتاشا" حبيبة الكاتب، ولكنه أنقذها من أن تصل إليها.بناء على تاريخ الكاتب، فهو وضع هذه البداية ليريك الصورة "العقدة" التي حلّها، أي: كأنه يقول لك انظر أنا الكاتب الفاشل في المستشفى الآن، قد حللت هذه الصورة ولم أجعل حبيبتي ولا أبوها يصل إليها.
وما بعد هذه الدخلة، كيف حلّ هذه الصورة؟
مسارات الرواية
الكاتب يصور نفسه في أربعة مسارات خلال الرواية حتى يحل هذه العقدة.
المسار الأول: تهجره حبيبته وتهجر أهلها ولكنه يساعدها ويساعد أهلها حتى تجتمع بحبيبها، ويطلب أبو حبيبها منها الزواج لابنه.
المسار الثاني: يتعرف على حفيدة الكهل الذي قابله في المقهى، وينقذها، وتبدأ الخيوط تتكشف له ليعرف قصتها، فإذا هي ابنة لامرأة قصتها هي قصة حبيبته، وتأخذ حياته في التعقد لأنه يحاول أن يتعب في الكتابة لأجل المال، وهو أصلًا مشتت بين حبيبته التي أخذ حبيبها يهجرها، ووالديها، وأيضًا هذه الصبية، حتى يغمى عليه.
المسار الثالث: هو يحاول دمج المسارين ببعضهما، بإعطاء الحفيدة لوالدي حبيبته، ولكنه يحبها وتحبه فتظل معه، وحياة حبيبته ووالديها تتعقد.
المسار الرابع: حيث أقصى تعقّد للأحداث، فالأمير قد تراجع عن طلبه الزواج من "ناتاشا"، وحبيبها قد هجرها، وأبوها أماتها من حياته، تأتي الكاتب الفكرة أن يأخذ الحفيدة لتنقذ حبيبته العزلاء الملعونة الوالد والمهجورة الحبيب، التي لا تملك إلا الشارع مُعينًا، لوالدها ليجعله يعطف على ابنته ويرجعها. بعد رجوع حبيبته لأبيها، تموت الحفيدة التي أحبها الكاتب، وتسافر حبيبته وأهلها كلهم، ويتركونه هو وحيدًا مهجورًا يهده الفقر والمرض حتى يذهب إلى المستشفى.
أسلوب الرواية
بما أنه كاتب، وهو قد عاش الأحداث، ويصورها بعد انتهائها، فهو فيها، يصور الأفعال، تعابير أو محادثات أو سلوكيات، ثم يشرع في تفسيرها. سواء أكان التفسير نفسيًّا، أي: خاصًّا بنفس الشخصيات، أو تفسيرًا للأحداث التي جعلت الشخصية تفعل هذا الفعل، أيْ: يعطيك محاولته لفهم الشخصيات، سواء محاولته وهو داخل الأحداث، أو محاولته وهو في المستشفى.
إليك أيضًا
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد