Loading Offers..
100 100 100

أزمةُ العلم بالجهل !

لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد

عشت في مدينتي أكثر من ٣٥ سنة، من لحظة ولادتي وحتى يومنا هذا، وبعد هذه العقود والسنوات، انعطفت يومًا فجأة، فاكتشفت أن هناك مقرًا لـ (ديزني لاند) في إحدى الأحياء، ولم أكن أعلم بوجودها طوال تلك العقود، رغم أنه -حسب ما كنت أظن- لم يبق شبرًا في مدينتي لم تمش عليه قدمي، وعجلات سيارتي.. لكنها الصدف يا إخوان!

هل تبدو لك هذه القصة معقولة عزيزي القارئ؟ لا؟ حسنًا، إنها معقولة تمامًا في عالم الإنترنت، حيث اعتدت على مشهد تجولي في أزقة الشبكة وحواريها وكأنني عربجيّ الحي، الملمّ بكل تفاصيله وشخصياته وبيوته، لن ينجح أحد بإدهاشي عن أي شيء في هذه الشبكة، لقد استنفدت ٢١ سنة من اندهاشي في هذه الشبكة، المواقع الغريبة، القنوات المريبة، البرامج الرائعة، يا رجل، لقد شاهدت رجلًا كوريًا يظهر في بثٍ مباشرٍ وهو نائمٌ يشخر، ويتابعه قرابة الـ ٣٠٠ ألف بني آدم، لقد دخلت موقعًا ليس فيه إلا كلمة (NO) تتراقص بينما تستمع إلى خلفية صوتية لرجل يصرخ بهذه الكلمة ويمدّها، لقد تابعت حسابًا يابانيًا في تويتر يقوم صاحبه بتبليك مئات الملايين من البشر، وقد كنت محظوظًا بتبليكه لي، ومرّ علي بودكاست أجنبي لشخص يتحدث عن تاريخ عائلته الإجرامية.

عالم جديد

كنت -بشخصية عربجي الحي- على يقين بأنك لن تقول أمامي شيئًا عن شبكة الإنترنت، وستدهشني بها، فأنا مع تفاصيل هذه الشبكة بين (العلم) و(طرف العلم)، أنا خرائط قوقل وشبكة الإنترنت هي كوكب الأرض، هذه الخرائط التي لم تكن مجرد خريطة عامة؛ بل تفاصيل دقيقة أدت لاكتشاف جرائم، وأماكن مخفية، وقضايا غامضة؛ فإن لم أعرف التفاصيل، فأنا على علمٍ بالمشهد العام لأماكنها.

لكن، وكغيري من البشر من قبل وأثناء ومن بعد، تكبُر فيزداد نضجك حتم أنفك ويتسع إدراكك، وتوزاى ذلك مع تضخم الشبكة، ونموّ السرعات، وظهور أجيال من حولك قد حُرمت دهشة المساس الأول بالشبكة، لكنها رُزقت بنعمة النمو في سياق الشبكة وأجهزتها الحديثة، ولم تر الغبية منها، فكل ما حولها أجهزة ذكية، ذلك الجيل الذي لا يعرف كلمة (شبكة) بل إنترنت، وهو نفسه الجيل الذي إذا رأى شريط الكاسيت قبل سنيّات قال: ماهذا الكائن؟! لكنه -بسبب جولاته في الماضي المؤرشف في الشبكة- بات يعرف كماليات الطيبين وما قبل الطيبين من الأجيال، لذلك لا أنصحك أن تتحداهم بمعرفة الكماليات القديمة، سيعطونكم إجابة لن تعجبكم، لذا أوقفوا هذه الفعالية.

متابعة المتخصصين

على كل حال، بدأ المتخصصون في مجالاتهم يطلون علينا عبر مواقع التواصل، متابعتهم لفترة معيّنة تجعلك تدرك أن كل واحد منهم يفتح لك نافذةً على عالم تخصصه، والعوالم التي تحيطه، فيطلعوك على ما لا يمكن استيعابه، ولا تداركه، وتصل إلى حدٍّ مع مواقع التواصل تقول فيه: حسنًا، إلى هنا، لا أستطيع متابعة المزيد من الأشخاص والحسابات. حيث تصل لقناعةٍ بأن هنالك الكثير من الروعة في هذا العالم والتي سترحل وأنت لا تدري عن وجودها، أو ستدري، ولكنك تتيقن أنه لا وقتك ولا جهدك يسَعَان لاكتشافها، والبحث فيها، لذلك تصل لذلك اليوم الذي تقول فيه: كفى يا نصّاب! كفى مزيدًا من المتابعات، كفى حشوًا للمفضلة، كفى التقاطًا للشاشة، كفى مراكمة للمشاهدة لاحقًا في يوتيوب ثم تعود بعد سنوات لتجد ثلاثة أرباعها محذوفة، وأخرى مات موضوعها مع اهتماماتك المنسي.

اليوتيوب

إن الأمر مشابهٌ لتلك الليلة الليلاء التي أعتقد أن الجميع قد مرّ بها، إذ تسمح لنفسك بالانحدار مع اقتراحات اليوتيوب أيًا كانت، فتتفاجأ من كمّ الأبواب والنوافذ والمتاهات التي تدخلك عبر عمود الاقتراحات في عوالم لم تكن تدرك وجودها من حولك، فذاك يلتقط الخردة من الأنهار والبحار والنفايات أعزكم الله ويحييها كأنها لم تصدأ يومًا، وذاك يصور لك بناءه لكوخ خشبي في إحدى الغابات لوحده، وعلى طريقة أجداده الأولين، وآخر يصور لك نفسه وهو يأكل ألذ الوجبات دون كلمة واحدة، وعالمٌ ترى فيه غريبي الأطوار يصنعون أنماطًا صوتية تسبب نبضًا مخدِرًا للدماغ وكأن هنالك من نزع جمجمتك وأخذ يدلّك عقلك مباشرة.

وآخر يصور نفسه منذ عقد كامل وهو يشرب كوب ماء بجرعة واحدة، وفقط، لا شيء آخر، وهو مستمر بذلك بغض النظر عن قلة المتابعات، فتذهب ليلة من ليالي الشتاء بساعاتها الطويلة في لمحة بصر، وتخرج وأنت تعلم أنك قد فوّت أكثر بكثير، الكثير الكثير، من العوالم، وهذا في موقع واحد، من حوالي مليارين موقع على هذه الشبكة، منها ربع مليار موقع فاعل يوميًا، وتصل إلى أمكنة مظلمة في يوتيوب تشكّ أن صاحبها من الإنس!

 الحظر

حين بدأ الحظر المرتبط بوباء كورونا قبل عام، زادت ساعات جلوسي على الحاسب الآلي، فقررت أن أجدد المفضلة، القابعة على حالها منذ أكثر من عقد من الزمان، إلا من إضافات هنا وهناك، ومفضلة المتصفّح هي نموذج البؤس الأولي لما يُحفظ كي يُرجع إليه، فننسى أننا قد حفظناه، ولا نعود إليه أبدًا، إذ كيف تعود لما نسيت أنه موجود، وإذا حدث وأن عُدت، ستتساءل عن سبب حفظك لبعض هذه المواقع أو الصفحات من الأساس؟

وتستغرب من ذلك؛ لأنه لا يطرأ عليك أنك قد اهتممت بهذا يومًا، وكأن شخصًا آخر قد قام بذلك، أو أسوأ من ذلك حين تعود فتكتشف أنك حفظت موقعًا كنت بحاجةٍ إليه مرات ومرات، لكن نسيت أنك حفظته في المفضلة، فتضطر للبحث عنه أو كتابة رابطه كل مرة، وهو بين يديك، إن الأمر مشابهٌ لأدوات المنزل التي تشتريها، فتنسى أنك اشتريتها، وحين تحتاج إليها تشتري أخرى، وهكذا تُراكِم وتنسى بشكل مستمر ومتكرر حتى يأتي يومٌ تكتشف فيه أن المنزل يحتوي معداتٍ تكفي لتطوير البنية التحتية للبلد!

ولعل بعضكم تعرّف على نماذج البؤس الأخرى المتفرعة عن النموذج أعلاه عبر مفضلة تويتر وإشاراتها المرجعية، وملف التقاط الشاشة في ألبوم الجوال، وغير ذلك مما يُهمَل وينسى، ودعني لا أثيركم بالحزن، وأذكركم بمفضلاتكم التي تمدّ ألسنتها إليكم كلما مررتم جوار صفحاتها وأيقوناتها.

وكان أهم ما يميز تصفحي في تلك الفترة، هو الانفتاح على كل مصطلح من الممكن أن يفتح نوافذ المتصفح على عالمٍ أجهله، أريد أن أذوق دهشةَ حديثٍ نبويّ مبشّرٍ أو معلّم ولم أتصوّر أن مثله موجودٌ في كتب الشريعة، وأفرح بكونه صحيحًا أو حسنًا، وأن أندهش من مواقع أو أساليب بحثٍ لم أدرك وجودها في عالم الإنترنت، وأن أتعرف على التطبيقات التي تضيف شيئًا لحياتك.. وقد حصل، وكانت تجارب جميلة، استفدت منها كثيرًا، ووسعت من مداركي، وأعادت الحيوية لتصفحي، لكنها حملت الكثير من الأسف.

اكتشافات مرعبة

أتذكرون مثالي عن ديزني لاند؟ حسنًا، استعيدوه مرّة أخرى، وأضيفوا إلى اكتشاف كونه موجودًا، اكتشافًا آخر بكونه موجودًا منذ سنوات، هذا سيضيف بلا شك حِزمة من الحسرة إلى منتَج الدهشة الأساسي، وهو الخليط الذي امتزج في نفسي حين اكتشفت الكثير من العوالم الجميلة التي لم أعلم بوجودها، وزاد الحسرةَ حسرةً كونها في الشبكة منذ فترة طويلة، وبعضها أفل زمانها بعد أن سَعِد فيها أهلها حِينًا وعاشوا زمنًا ثم صاروا جثثًا تجد بقايا رفاتها تحت (الصفحات المخبّأة) وموقع (أرشيف).. مَدفن الانترنت.

وأخرى بقيت على حيويتها وتفاعلها، لكن فاتك الكثير كما يقولون من فعالياتها ورتمها العالي، وصار لها كلاسيكيات وذكريات لست جزءًا منها أيها الصعلوك المتأخر على الحفل، وصرتُ فيها كأنني شابٌ من جيلنا (جيل الثمانينات)، يظهر بيننا اليوم -وأصغرنا من الجيل قد بلغ الثلاثين وأكبرنا مقبل على الأربعين- ليقول متحمسًا: هل تعلمون أنّ هنالك مسلسل رائع اسمه قرانديزر؟!

فمثلًا.. قد علمت أن الخط القديم لمصحف المدينة له تطبيقات جيدة جدًا ومجانية تعيد لنا ذكريات ذلك الخط الرائع (نظام أبلأندرويد)، وكان ذلك بوابة للالتفات لمتجر الجوّال كنافذة للاكتشاف وليس مجرد مرجع تعود له إذا احتجت تطبيقًا محددًا باسمه، وهذا قادني لتطبيقات أخرى خدمتني كثيرًا أو أضافت تسهيلًا أو متعة أو خدمة للحياة اليومية، أو وقت الاحتياج لها، فتطبيق يحذف المتكرر من الصور والفيديو في ألبوم الجوال (أبل)، وتطبيق يُظهر لك -بدقة وتنسيق رائعين- مواقع النجوم من خلال توجيه الجوال للنجم مع معلومات مفصلة عنه.

بل وحتى مواقع الأقمار الصناعية ومحطة الفضاء الدولية (أبلأندرويد)، وآخر يقسّم لك الفيديوهات تلقائيًا حسب الوقت المرتبط بالتطبيق الذي ستنشره فيه، فتقسيم لحالة واتساب، وتقسيم لسناب، أو انستقرام (أبل)، وتطبيق يظهر لك جميع الإذاعات العالمية بحسب موقعها في الخريطة، وآخر يجمع لك جميع مستودعات (تشليحات) السيارات لقطع الغيار المستعملة مع تواصل مباشر بأهلها، وتطبيق رائع لجلب النص من خلال توجيه الكاميرا نحوه، فيتحول من صفحة الكتاب إلى نص مكتوب في الجوال بمجرد القيام بهذا الأمر مع نسبة خطأ قليلة جدًا إذا كانت طبعة الكتاب واضحة.

ولك أن تتخيل كمية الوقت الذي اختصره هذا التطبيق (أبلأندرويد)، وغير ذلك كثير مما اكتشفته، وكنت أحتاجه، وقد ضمنت روابط بعضها، ولو عددتها كلها لكان هذا المقال عنصر تشتيت لكم، بدلًا من أن يكون داعمًا للتركيز، وكان مؤسفًا أن الناس سعيدة بكل هذه المزايا منذ سنوات، والمؤسف أكثر أن من بين المليون سالفة وقصة التي يقولها لك الناس لا أحد يذكر لك هذه المفاجآت، واللهم غيظ وليس حسدًا.

بعض المعلومات لديها قدرة كبيرة على التواجد من حولك، قابعة في ذاكرة معارفك ومن حولك من الناس، أو قريب من المواقع المجاورة لتصفحك لو أنك انتبهت، وفي نفس الوقت تختبئ عنك لسنوات، وبكل نجاح، وتستقر هذه المعلومات فترة طويلة في النقطة العمياء التي لن تراها عينك، ولن تسمع عناه أذناك، ولن تدرك بصيرتك إمكانية وجودها، وستدهش حين تكتشفها وتعلم أن من حولك يتهنى بها، والعالَم كله مزدحم فيها منذ فترة طويلة، وأنت لم تعلم بوجودها من الأساس، حتى تحسّ أن هنالك مؤامرة ما لإخفائها عنك.

المزيد

أذكر -في تلك الفترة- مغردًا أزعجني بتكرار إطلالاته الدعائية في صفحتي الرئيسية بتويتر، حيث كان يُسوق لحسابه ودوراته عن موضوع (الربح من الانترنت)، وهو من المصطلحات التي تشبه المَعَالِم التي تمرّ عليها في يومك وليلتك لكنك لم تفكر يومًا بالانتباه لها، فتصير في مكانٍ بين الحقيقة والخيال، واليقظة والمنام، حتى يتفضّل امبراطور جسدك، مولانا (الوعي)، بالالتفات المُدرك لها، وقد حصل يومها، إذ اقتنصتُ المصطلح، وقلت ما هذا الشيء؟ وكتبته في محركات البحث المفضلة لدي: جوجل، تويتر، يوتيوب.. وصبّت عليّ سماء الانترنت طوفان من المعلومات الذي يجعل أشد الناس تماسكًا وتركيزًا مصابًا باضطراب تشتت الانتباه لمجرد تصفح نتائج البحث، وقبل الغرق في التفاصيل.

باي بال – بنك في الإنترنت – عمولة – مسوق – وسيط – كتابة المحتوى – التصميم.. سترى المسيح الدجال واقفًا على رأسك يفتنك ومن خلّفك وأنا لم أنته من ذكر مصطلحاتها، فقلت في نفسي: هذا ملف مفضلة جديد، أجمع فيه مدونات تحكي لك تفاصيل الربح عبر الإنترنت، وموقع أمازون للتصميم على المنتجات وتسويق تصميمك، ومواقع للبرمجة السريعة للألعاب وإتخامها بالإعلانات، وموقع لرفع الصور أو الرسومات وبيعها لمجتمعات أجنبية تحتفي بها وتشتريها بما لذ وطاب، وهذا موقع فايفر الأجنبي.

أدخله فأتمنى وجود موقع مثله، فأفجأ بوجوده ضمن شركة حسوب بمواقعه المتعددة والتي تصرخ فيك: هات موهبتك ومهاراتك وشيئًا من وقتك واعرضها للبيع، وهو من المواقع التي تنطبق عليها حَسرة الفوات، حيث أنني اكتشفته بعد ٩ سنوات من تأسيسه، وأثار الأمر غيظي لكونه يقدم خدمة كنت أتمنى أن توجد في الإنترنت العربي، ولم أدرك أن هناك من يقدم هذه الخدمة، ومنذ سنوات، ولهم معها ذكريات وفعاليات، وأنا واقف على باب موقع (ريديت) متسلحًا بدروس اللغة الإنجليزية في الأولى متوسط، وأنشودة (twinkle twinkle little star) والتي للأسف الشديد لم تخدمني في الاستمتاع بهذا العالم، فإذا موقع (حسوب I/O) يقدم هذه الخدمة وبسلاسة تصميم مكعبات الليجو، وطبعًا هذا الموقع بالذات لفت انتباهي كوني مهتمًا بعالم الكتابة وتناقل الأفكار، ومشتاقًا لمن يؤدي دور المنتديات.. رحمها الله.

حيث تهنا في صحراء قاحلة أجدبتها مواقع التواصل، لا بارك الله فيها من مواقع، فنسفت مواهب ارتفعت بالمحتوى العربي ارتفاعًا لا أعتقد أنها ارتقت مثل ارتقائه ذاك في أيامنا، حيث كان الكل يكتب المطولات ويصبر على قراءتها والرد عليها وتحليلها، وقبل أن أجد بعض المواقع الأخرى الرائعة كموقع زد هذا وغيره.

صحيحٌ أن جزءًا من هذه العودة حملها فئة تخصصت بكتابة المحتوى والتي هي أقرب لفن التسويق أكثر من قربه لفنون الأدب، إلا أن المريض يرضى بالقليل من العافية، بدلًا من الكثير من الألم، أعتقد أن عودة الناس للمطولات راية حملها كتاب المحتوى، انتبهوا لما يقومون به أم لم ينتبهوا.

الربح

كتابة المحتوى تعتبر نموذجًا صارخًا لمبدأ الإخلاص للفكرة، والسياق يجري سريعًا، هو نوع من أجواء المنتديات، حيث كان الناس لا يحسون بأوقات قراءاتهم، ومطولات المقالات؛ لأنهم غارقون في الأفكار، وهذا ما يصرخ فيه كتابة المحتوى، وفتح باب العودة والأوبة لفن المقال.

وهكذا أنغمس في أثر معرفة مصطلح (الربح عن طريق الانترنت) فأقع على موقع خمسات، وهو نشاط مطابق لنشاط فايفر، الذي تفتح فيه متجرك، حرفيًا، دون أن تحمل همّ طفاية الحريق، ورخصة الدفاع المدني، ومقاس اللوحة، هات موهبتك ومهاراتك واجعل منها مصدر رزق، وسوّق لمتجرك عن طريق جوجل، وبتقسيمٍ لعله من ألذ ما مر علي في مواقع الانترنت، حيث يجمع بين سمات الويب القديم والحالي، التنقل فيه سلس، والصفحة تظهر أمامك صلبة ومتواجدة بحق، وليس كغالب مواقع الجيل الحالي من الويب، والتي تبدو وكأنها قابلة للذوبان والتفكك.

فكلّ أيقونة تحسها في مكانها، وقد التحمت به تمامًا، فإذا ضغطتها أحسست كأنها تأخذ بتلابيبك وتنقلك مباشرة للصفحة التالية، إن تصفح هذا الموقع هو الحل الوحيد لمعرفة ما أقصده من وصفي هذا، ومن عرف الإنترنت في بداياته استحضر طرق التنقل هذه التي اشتقنا لها.

موقع مستقل باب رزق آخر، وأعتقد أنه ركن من أركان كسب أصحاب المهارات في المحتوى العربي، وأنا منهم، وهذا هو خلاصة بحثي، مع مواقع أخرى وطرق أخرى طبعًا، فقد لاحظت أن مصر لها موقع مشابه مرتبط بالرقم الوطني، وقد نسيته للأسف، وكذلك السعودية من خلال موقع بحر، وإن لم يصل الزحام فيها لمستوى مستقل، لكنها في تطور جميل إذا تم الاهتمام به، فقد بدأت الرسائل تصل لإيميلي بين فترة وأخرى بعد انقطاع.

لعل التسويق له دوره، وكتوأمه خمسات، استولى تصميم مستقل على ذائقتي، وصرت مهووسًا به فترة الحظر من بين مزاياه الأخرى، فقد فتحت حسابًا للتجربة، ولم تتوقف العروض يومًا عن إيميلي، مع أنني لم أحدد إلا فئة الكتابة فقط، ولا شك أن الأقسام الأخرى كالتصميم والبرمجة والاستشارات.. إلخ تضجّ بطلبات الأعمال، وبطريقة رائعة للغاية، وتحفظ حق الجميع، فصاحب العمل يقدم ماله للموقع، وأن تقوم بالعمل وتعرضه عليه.

فإذا تم الاستلام وصلك المبلغ من الموقع، مع أيقونات وخانات واضحة تحدد لك المدة ومتوسط العروض، فأنا أريد أن أترجم مقالًا لي، أذهب للموقع كصاحب عمل وعروض، وأضع شروطي، ومتوسط المبلغ الذي أدفعه، والمدة، لتنهال علي العروض من الكثير من أصحاب العمل، الكثير منهم من دهاة الأخفياء، كأولئك الذين تمر عليك حساباتهم في مواقع التواصل، لا يتابعهم إلا العشرات مع أن كتاباتهم ومحتواهم يطؤون به رؤوس كبار كتاب الإعلام، وثلاثة أرباع الناشرين في معارض الكتاب، لكنها الدنيا وغرائبها ونصيبهم منها، ولك أن تطالع مقالَيّ: [ حافلة القَدَر ] و[ ملامح القناعة ].

وما إن تظن أنك قد علمت كل كل شيء، حتى تكتشف أن هناك مواقع تبحث فيها بالكلمات عن مواضيع صور، فتظهر لك عشرات الألوف من الصور المجانية، كل واحد منها ينظر إليك شزرًا لكونك تترك موقعهم الجميل هذا، وتبحث عن الصور في محرك جوجل، وتستبدل الجمال الذي يظهره لك هذا المواقع، بنتائج جوجل التي ثلاث أرباعها مواقع منتهية بـ stock وصورٌ غير واضحة، مبصوقٌ عليها بكتابات وخطوط تمويه، حتى لا تهنأ باستخدامها إلا بدفع قيمةٍ وقدرها.

وقد كتبت سابقًا عن اكتشافي لعوالم النشر المهتمة بفن المقالة في مقالي: [ م.ح ] – عن معاناة كتاب المقالة. فلا حاجة لتكرار ما كتبته. والبغيض في الأمر، وهو أمر لن تستطيع تغييره، لأنه أكبر منك: يقينك أن النقط العمياء تخفي وراءها حتى يومك هذا عوالم لا تقل روعة عما اكتشفته، وأن هنالك الكثير من الضجيج والفعاليات والاحتفالات تجري في فنون وتخصصات ومواقع ومنصات لا تدري أنها موجودة أساسًا، وربما ستكتشف بعضها بعد سنوات، لكنك ستغادر هذه البسيطة، ولمّا تر الكثير منها.

ومما ساعدني على استيعاب هذه الحقيقة، هو كثرة المشاهير الذين لا تعرفهم، فتقع على حساب أحدهم في تويتر، أو قناة في يوتيوب، فترى مئات الألوف؛ بل الملايين، يتابعون ويتفاعلون مع هذا الشخص، وأنت تردد: مين ده؟!! وتستغرب أن الكل يعرفه إلا أنت، وهذا الأمر تكرر مع غالب الناس، كأنك اكتشفت شخصًا غريبًا يعيش في منزلك، ويعرفه كل الناس إلا أنت، بل تفاجأ أن البعض ترى في نظرته عتابًا كأنك قتلت له رحمًا، إذ تجرأت وأخبرت أنك لا تعرف هذا المشهور، ولا عليك، فحالك طبيعية، فنحن في زمن يوجد فيه مشاهير لا يعرفهم الكثير!

يقول الشاعر: كلما أدّبني الدهر *** أراني نقص عقلي .. وكلما ازددت علما *** زادني علما بجهلي

سرعة التطور

مع التطورات التي حصلت للشبكة ولسرعة الانترنت، حتى صارت حركات التحكم بها من عَفو اليوم والليلة، كأنها من أطراف الجسد، وحاسّة من الحواس، طرأ شيء لم يمكن أن يحصل لعموم الناس، ربما جرى لبعض العلماء والقراء ممن كانوا يكتشفون العالَم عن طريق الكِتاب، وكانوا يبثّون شكواهم عن قِصر العمر وكثرة العلم.. في مؤلفاتهم، وكانت مثل هذه الشكوى نخبوية يومًا ما، ولا يبثّها أو يحمل همها العموم من الناس.

أما اليوم، وبفضل مئات ملايين المواقع، تحتوي مليارات الصفحات، ازداد علم الناس بما يفوتهم من روائع الحياة، مهما كانت اهتماماتهم دقيقة، فحتى الاهتمامات الدقيقة تشظت، وصار لها فروع ووسائل وطرق عرض متنوعة لا يكفي يوم الإنسان وليلته وتلك العقود القليلة التي يعيشها لإدراك بعضها، فيدرك الإنسان وجود الكثير مما يجهله ولا يمكن اللحاق بعلمه.

إن هذا العلم بالجهل كان عند أولئك الطيبين من النخب القديمة ينتج تواضعًا، وقناعةً، ولا يتجاوز أثره السلوك، أما اليوم، فلكون الإنسان توهّم من خلال أيقونات المتابعة والمفضلة وأدوات الحفظ أنه باستطاعته تأجيلها لوقت آخر؛ صار أثر العلم بالجهل تشتتًا، وضياعًا، والخروج من الكثير بالقليل، ومن الفوضى بالتيه والإحباط.. والاكتئاب.

لذلك كثرت وصايا العقلاء، ومن يعاني منهم، عن السير باتجاه واحد بلا التفات، وظهرت منتجات تتحدث عن فوضى التشتت، وحِمية التركيز، لكني كنت ولا زلت أقدر النصائح الخام، بعيدًا عن الإطالة المرتبطة باستثمار المشكلة تجاريًا، فما يمكن كتابته بمقال، تطبع له الكتب، وتوضع له الدورات، وهو أمرٌ يمكن تلخيصه بمقالة، بل بتغريدة أحيانًا.

لذا أرى أنه من الحلول المقترحة لمعالجة آثار أزمة العلم بالجهل:

  1. الاستغناء عن المفضلات والعلامات المرجعية إذا تم تجربتها لسنوات دون فائدة تذكر، وإنما تؤثر في نفسية المحتفط سلبًا، والاعتماد على شرط: الاستفادة من المادة هذه اللحظة أو هذا اليوم وإلا لا احتفاظ بها في المفضلة.
  2. الاستغناء عن الحسابات والمواقع المكررة لذات الموضوع، فمثلًا متابعة الكثير من المواقع الإخبارية في تويتر عنصر تشتيت وإطالة لزمن، فيكتفى بصحيفة واحدة يفضل قراءتها PDF لتعويد نفسك على المطولات.
  3. الاكتفاء بمتابعة ١٠٠ حساب في تويتر مثلًا، على الأكثر، وبضعة حسابات في يوتيوب، فهذا -حسب تجربتي- هو المناسب للوقت المتاح لها، وحتى لو كنت تتابع الكثير من الحسابات مجاملةً، تستطيع (كتمها) في تويتر، فلا تظهر لك في الصفحة الرئيسية وتكتفي منها بما ينفعك، ربما يكون حذف الحسابات مؤلمًا ومضايقًا، لكن تأكد أن الروائع في الشبكة كثيرة لحد استحالة تتبعها، ولو أخذت سياسة أن ما سيعجبك ستتبعه فورًا.. لن تدرك شيئًا.
  4. الاستغناء تمامًا عن حسابات وقنوات ومواقع ومقالات ومؤلفات بيانات الحياة الاستهلاكية، وقد كتبت عنها مقالًا كاملًا يعرّفها ويصف ضررها عنوانه: [ بيانات الحياة ].
  5. الاكتفاء بأماكن نشر محددة قدر المستطاع، والاستغناء عن كثرة مواقع التواصل، ويمكن صرف عاطفتك نحو حساباتك فيها وذكرياتك من خلال إبقائها دون تعطيلها، لكن تهجرها بعد ضمان أمانها عبر الإعدادات، وتكتفي بموقع واحد تركز فيه جهدك، وقد جربت هذا ونجح معي بعد فترة من المجاهدة، فهجرت سناب وأنستقرام وفيسبوك، إلا من دخول نادر للذكرى، وركزت جهدي في صفحات محددة، وكان في ذلك خير وراحة.
  6. مقاومة اقتراحات اليوتيوب، وأي اقتراحات متابعة في مواقع التواصل، وتذكر ما مضى من أيامك مع تتبع الاقتراحات وكثرة المتابعات، ومدى التشتت والفوضى الذي جعل من تصفحك عنصر صداع، لا أُنسٌ وانتفاع.
  7. إذا لم تستغن عن وجود مفضلة، فاكتف بواحدة تجمع فيها ما شئت مما تعود إليها فقط، لأن تجارب الناس، وأنا منهم، أثبتت أن كثرة أماكن الحفظ، من أهم أسباب عدم الانتفاع منه، ويوجد تطبيقات في الجوال، وإضافات في المتصفحات، تخدم جمع الصفحات المؤجلة.

خيرٌ لنا ألا نبحث عن ديزني لاند، حين لا نملك الوقت الكافي لها، والقدرة على دفع ثمنها، وخيرٌ لنا أن نتتبع العِلم، وندع أطرافه.

إليك أيضًا

تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد

ربما تستفيد من هذه المواضيع كذلك :

تعليقات الفيسبوك
0 تعليقات المدونة

تعليق الفايسبوك

01ne-blogger

إرسال تعليق

Loading Offers..