لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
ابني الحبيب. أنت وأنا ومن حولنا ومن قبلنا، والخلق كلهم، عرفنا الدنيا يوم تأهّبت عقولُنا وقلوبنا للتلقي من روافد أسماعنا وأبصارنا، ومن ورائها نبض الفطرة البيضاء. وجودنا على الأرض مع غيرنا كان محركَنا لنكتسب وننضج ونشارك.
كنتُ مثلك ومثلهم، أتنبه لأفهم وأحسن التصرف، وكان مما تلقفته وقتها قول بعض الناس إن كل شخص أسن مني هو أرفع درجة، وإن كلمة “كبير في السن” معناها كبير في المعرفة والخلُق والحكمة والإيمان والأمانة، ويجب أن أوافقه وأعمل برأيه وأحفظ كلامه. ووقعت تلك الأقوال في نفسي موقع القبول وما زالت، فالأسن يربي ويرشد ويساعد ولا شك، ويقتضي الاحترام تبعا لذلك.
ظل بعضهم على أقوالهم تلك وأشهرًا وسنين، يعيدونها مرات وجدتها تفوق ما يتحدثونه عن أمور كثيرة ومهمة أخرى احتجت أن أفهمها أشد الاحتياج. نعم، وعيت معنى حرصهم الطيب علينا أن نحترم الأسن وتجذر في نفسي، إلا أن بعضهم حين أكثر ولم أسمعه يقول كلاما غيره، تحركت أسئلة في نفسي وأقراني، كأي أمر في حياة أي صبي سليم في كل مكان وزمان يعيش فترة التلقي والانصياع لأوامر طاعة الأسن طاعة مطلقة.
وزاد حركة النفس في تلك الفترة يا بني ما حصل من قلة حولنا أثاروا فينا أسئلة حائرة ومعها تأمل وتعجب. مما حصل، إني سمعت مع أقراني رجلًا يأتي بكلمات نابية لم نكن نعرفها فهو يتلفظ بها أكثر أحواله، وآخر يديم السخرية الشديدة حتى من الفعل الحسن ويقرّع العقلاء ويهزأ بهم حتى كنا لا نعرف جده من هزله، وآخر يجاهر بمعصيته حتى أمامنا نحن الصبية، وغيرهم لا يعرف الكلام إلا صياحًا بصوت منكر حتى مع من بجانبه ويخاصم من ينصحه، ولا يقبل من الناس أمورًا يقولها ويفعلها بينهم.
وقع كل ذلك أمامنا فذهلت عقولنا الغضة واضطربت نفوسنا، وفارت في كل منا تساؤلات ملحة. ولكن ليس هذا بذي خطر، فهو يحصل من قلة في كل زمان ومكان. الخطر كان في الاضطراب الذي حصل نتيجة لهذا.
مُسلّمات وتساؤلات
فكر معي يا ابني الحبيب. أخبرتك بما تعلمت وحفظت، وهو أني إذا قابلت من هو أسن مني أخذت بكلامه وتركت ما أنا عليه، وهو أمر حسن ومشورة مطلوبة. لكن إذا جاء من هو أسن منه وقال كلاما في الشأن ذاته، ثم جاء من هو أسن منهما وتكلم، ثم جاء بعدهم من هو أسن منهم، فهل الواجب أن أنبذ كل رأي كان راجحًا لآخذ بالذي بعده، ثم الذي بعده؟ وأين أنتهي إن كثر هؤلاء؟ هذه مواقف تقع كل يوم لا ينكرها حي، فلنفكر فيها.
لذلك تساءلت لأفهم فلا أقع في خطأ يعنفني أحد عليه، بعدما ظهر أمامنا أولئك الذين زعزعوا أمر الطاعة المطلقة لهم بمواقفهم المريبة وألسنتهم المعيبة. ماذا عنهم وأمثالهم؟ الذي يقول ما يخالف غيره ويُسرف ويصر ويؤذي بكلامه، هل يجب علي الانصياع له لأنه أسن مني؟ أفلا أنبهه من أجل التواصي بالحق حسبما جاء في سورة العصر؟ أم أترك أمر مولانا العظيم؟
وحين أرى تمادي أحدهم في الشر واللغط والهياج، فهل عليّ واجبٌ ثانٍ هو أن أفسر مواقفه على أنها حكمة منه وجهل مني، وأن أقنع نفسي بذلك؟ وهل آخذ تصرفاته سُنة لي وبلا نقاش؟ هل في أولويات الحياة ومُسلّماتها الأخذ بحكم السن دائمًا أم بحكم الصواب؟ أسئلة لا حُرمة فيها، وقد تعلمنا من أبي الأنبياء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أسئلة أعظم منها عن ربه، ونحن هنا نتناقش عن المخلوق.
كل من له عقل سليم وقلب بصير حولك يا ابني العزيز، وهو في مراحل نشأته أينما كان، تجده أمضى بعض نهاره وليله يحاول أن يفهم ويستنتج. كل واحد يريد أن يدرك حتى لا يفوته أمر يعود عليه بخيبة أو بحرج أو بمعاملة يكرهها، فكان تساؤلي وغيري أمرًا فطريًّا واردًا عما يقال لنا. كانت أسئلة فرضتها مواقف قلة من الناس على الذهن المتقد والقلب التواق للمعرفة، لأني لم أعرف، كأي ناشئ مثلي، تفسير ما حيرني حيرة ملحة، فكل طارئ على الانسان يظل مجهولًا حتى يتضح أمره ومعناه فيفهمه ليعمل تبعا له، ثم ينتقل لأمر غيره، فكيف إن كان غامضًا وفادحًا وفيه نقائض؟
معاناة بلا غاية
تحولتُ بعدها -كما يتحول أي ناشئ في الدنيا- لبعض أولئك الذين عظّموا كل أسن وشددوا عليّ. قصدتهم طالبًا إجابات تطمئنني، وكلمات تريحني، لكنني انقلبت منهم أمدًا طويلًا في دهشة وحيرة أعظم.
بعض من سألتهم في الزمن الغابر عما أفعل مع الأسن المتطاول أو الكذاب أو المؤذي، كانت أوداجه تنتفخ، لا يشرح ولا يرد، وربما صاح أو سب أو لمز أو طرد، وهو -كما قرر بنفسه لأمثاله- قدوة في العلم والحلم والعون، لأنه أسن. لم أنقلب من هؤلاء البعض بتفسير للغموض ولامتناع الشرح، ولا لسبب الغضب! فكيف يفهم الناشئ بداياته وهي غامضة، وممن يفهمها؟
قلبي يصارحك حبًّا وحرصًا يا ابني الغالي، عن أيام يعرفها كثيرون، تحيرنا وتألمنا فيها ونأبى أن نكرر مثلها مع غيرنا. لحظة واحدة هي زمن كل موقف نسف فيه بعض الناس محامد السن التلقائية نسفًا مدويًّا، ولا ينكر ذلك إلا قلة يغالطون مشاعرهم ويكذّبون واقعهم ويجحدون تجاربهم. وأقول نعم ثم نعم، إنه لا جدال أبدًا في تقدير الأسن ومشاورته، فهذا من آداب الحياة الواجبة. إنما هو أمر آخر أحدثك عنه، خلطه قلة من الناس مع الأدب فأضروا.
أحدثك عن الإضرار لا عن الأدب، عن أمر لا أنساه ولا ينساه كثيرون وكثيرات، عانى بسببه أحبة وأعزاء كثيرون وكثيرات. قريبون وبعيدون عانوا بسبب خلط وغموض وعبث قلة ممن حولهم. وأعود فأذكرك ونفسي وغيرنا أن الحديث ليس جدلًا في الاحترام، البتة، فالاحترام ركن من أركان الإنسان الحر العاقل المكلف ولا أحد يجادل فيه، إنما نحن نفند ما صنعه ويصنعه قلة من الناس إذ يشوهون الاحترام ويحرفونه عن مواضعه.
أدلة واقعة
ابني، بل أخي. وكيف لا أقول أخي وهم يقولون “إن كبر ولدك خاويه”. جلجل بها بعضهم كلامًا نقضوه بأنفسهم أفعالًا، بل اتخذ بعضهم مواقف الإعراض والهروب والهياج والإسفاف في أحوال لا تقتضي إلا السلام والود والاستفهام.
لوثوا السمين بالغث، ومزجوا الصالح بالطالح. وإياك وإياي أن نشك في أن لكبير السن احترامه وأنه أكبر من أن يؤذي الأصغر ويحقره، بل يأخذ بيده ويشركه معه ليخوض الحياة بثقة وحماس وطمأنينة. وها هو إمامنا -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه عاشوا أخوة حقة، سهلة ومريحة، بالمكاشفة الحرة والمناجاة الصريحة والمعاملة الجميلة، فانجلت كل معضلة قبل أن تبدأ وانفرجت كل أزمة قبل أن تنشأ، وازدادوا علمًا وأدبًا. صفَت أجواؤهم بلا حرج ولا غموض ولا مَلَص ولا ألم.
وهنا بيت القصيد أكمل منه ما تخبط فيه بعض الناس وأخطأوا. ذلك الجيل العظيم وما بعده وما بعده، قدواتنا الخالدة تلك، احترموا بعضهم وتعاضدوا دونما تمايز في العمر، ودون كلمات “أكبر” و”أصغر” ولا “كبير” و”صغير”، تلك الكلمات التي أدمنها بعدهم قلة من الناس إدمانهم المسكنات والمهدئات، وابتدعوا ما لا أصل له ولا حجة، هروبا مما يجهلون، بحثا عما يجهلون، فكل بالغ عاقل مؤمن في سائر عصورنا، حدثًا ومسنًا، يُعوّلُ عليه ويكلَف بالعمل والبر والبناء، آخذا براية السلام والخير.
ونعلم جميعًا يا أخي أن ليس للعمر وحده حق على صاحبه، بل إن كلمة “لا إله إلا الله” لا تُقبل إلا بحقها، كما حصل عندما أنكر عمر بن الخطاب على الخليفة ابي بكر قتال قوم يقولون “لا إله الا الله”، فرد الصدّيق غاضبًا: إلا بحقها! أي لا معنى لقول إلا أن يُعمل به. وكذلك العبادة الخاوية من معنى وأثر ليست بعبادة “ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبل المشرق والمغرب”. نؤمن جميعًا أن الكلمات لا يُعتد بها إلا إن وافقت الأحوال والمعاني والافعال، ونعيش هذا الإيمان كل يوم. والعمر مثل ذلك، إن خلا من أدب وعلم وحكمة وحلم، فقدَ حقه وكان وبالًا على صاحبه فتراه يؤذي بخلطه، وأفقد صفة “كبير” وقعها ومقتضاها. أدلة سارية في الحياة سريان الهواء.
ثم أسأل نفسي وأسألك ابني الغالي، وأسأل أي عاقل بضع أسئلة تبين وتؤكد غلط بعض الناس الذين يسيئون لغيرهم متخذين أعمارهم سببا منفردا للإساءة فيتسببون في الإساءة: هل يُعقل أن أتغنى بتاريخ ميلادي -ولم يكن باختياري- لأترفع به عمن ولد بعدي ولا أطيق أن أسمع منه؟ هل أنا خير من كل من وُلدتُ قَبلهم، وأنا لا فضل لي في موعد بداية حياتي؟ وهل بي نقص عمن ولدتُ بعدهم؟ أسئلة لا نجد لها مكانًا في البشرية منذ خلقت.
حجة موهومة
أخي من صلبي ومن أصلاب غيري. يتوهم قلة من الناس وهمًا شديدًا يبلغون به الوسوسة فلا يُفهم ما يريدونه. وأقول نعم، الاحترام واجب حاصل ويحصل بلا طول مداولات ومشاحنات وحركات وسكنات، لأنه سلام ولطف واتزان واقتداء وجماعة مباركة. لكن قلة واهمة تصادفهم بين الفينة والفينة، نخشى عليهم ما نخشاه على أنفسنا إن وافقناهم في حجة منهم لا أساس لها. نخشى أن يهوي أحدنا بخلطه في ذنب مخيف حين يفسر حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- بهواه من أجل أن يعيش بهواه.
حديث “ليس منا من لم يوقر كبيرنا” يتخذ منه بعض الناس سلاحًا -والعياذ بالله- ليحرِمَ التعبير ويمنع المناجاة ويبطل التذكير، مبتدعًا شيئًا شاذًّا ما أنزل الله به من سلطان وهو منح ومنع كل خصلة حسنة في الحياة، وإعطاء وإقصاء الاحترام والأدب والعلم والبر، فِعلُ كل ذلك تبعا للسن وحدها، أيما كان عقل صاحبها وخلقه وحنكته!
هذا خلط لا يُقبل لأنه بين أضداد، ولأنه حجْرٌ لا يُعقل على واسع مشاع، بل فيه لمزٌ بغيض كاللمز في النسب وغيره. ثم نعم وأجل، الاحترام عطر وسُقيا وبناء، وهو واجب علي وعليك تركه بلاء منكر إن حصل مني ومنك. لكننا بصدد أمر لا علاقة له بالاحترام، بل ينقض الاحترام. نحن يا أخي الغالي، ويا كل أخ غال، نأتي بمعصية عظيمة إذا كذبنا على الرسول بتفسير حديثه بأمزجتنا على أنه يجيز للأسن أن يَسخَر ويسب ويتطاول ويظلم ويهين ويتطفل، وعلى أنه يأمر الأسن ألا يصغي ولا يتلقى ولا يفهم ولا يتراجع.
وتُسلمنا تلك الزلة الشديدة إلى خطأ أشد حين نوحي للأسن بالعصمة تاركين نصرة الأخ حين يكون ظالمًا. وكلمة الأخ بالبداهة تعني وتقتضي التواد والتراحم والتواصي والإحسان، وتجسد الجمال واللين والطمأنينة. الأخوة الفطرية لا تحتمل مزج التوقير الجميل بالذل القبيح، فهذا تعكير شائن لا يكون بين أي اثنين من البشر، اللهم إلا في حرب، وإن فعلناه غلونا وانشغلنا في طلب الاحترام عن حقيقة الاحترام.
لا أطلب لنفسي التوقير ولا أفرضه فرضًا ملفتًا مصطنعًا، ولست أرضى الغلو في ذلك حتى إذلال غيري. والاحترام، بحمد الله، تراه في مجتمعك كله، عشناه جميعا وتربينا عليه ودرسناه. التوقير أبذله لكل من حولي فيعود إلي فعلًا وأجرًا. التوقير أن أساعد من أعيته سنه. التوقير أن أُلبي حاجة من ضعفت ذاكرته وجوارحه وأن أتجاوز عن هفواته. يسعدني أن أُلبس الأسن مني حذاءه وأخدمه وإن لم يطلب، هذا هو الاحترام، بل وأفعله لكل عاجز وإن كان أحدث مني سنًّا.
ليس في الحديث الشريف -وحاشا لقائله -عليه الصلاة والسلام- أن يصدر منه- توجيه بأن يتطاول أحدنا أو يحقر أو يقهر أو يَغصِب، فهذا مسخ للتوقير يبطله، واللهم غفرانك لمثل هذا العبث. وليس في الحديث إرغام المرء على السكوت عن حقه أو مظلمته لأن خصمه أسن منه، ولا في أي ملة. وليس في الحديث إلغاء النصح والنقاش بين الناس لفرق السن.
أستحي والله أن أقول لك، كلما رأيتك وكلمتك، إنك “صغير” وأن أكررها على كل من وُلد بعدي. أستحي أن أحشو حديثي بما لا فائدة منه على كلينا، فأذكر أحدًا مرارًا في كل مكان ووقت أنه أصغر مني، بل أستهجنها ولا أقبلها عليك مني، لأنه -ببساطة- لا داعي لها إن حركنا العقول والهمم والأفئدة، ولأنك لا تجد لها ذكرا مفرطا شائعا في أجيال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولا يجدها عاقل باحث في سير الرجال والأمم، وأولها أمة الإسلام. أريد أن أُري غيري أنني أفضل منه؟ أهذا أدب؟ أم مدح للذات مذموم؟ أفيه مؤاخاة ودعم لغيري واحترام؟ ولماذا أظل أراقب الأحدث سنًّا أن يُظهر لي التوقير في كل لفتة ولفظة وحركة، وأنا لا أبذله مني له؟
أم أن الأحدث سنا مني لا يستحق احترامي؟ ومادامت أحاديثنا وأفعالنا ليس فيها عيب ولا إساءة ولا إسفاف، فكفى بهذا احترامًا بين أي اثنين في الدنيا، دونما إضافات وتكلف وقلق.
أسئلة من التاريخ والمنطق
إبني وأخي. قد تقابل أحدًا من أولئك القلة، فيه عقدة ما، ويريد ويجتهد أن يوحي برجاحة عقله وكمال علمه وبلوغ حكمته بأن يترك احترام من هم أحدث سنا منه فلا يحفل بهم، ويجتهد أن يفعل معهم ما يريد ويختار ولا شيء سوى ذلك، وأن يُظهر إنكاره عليهم ويخاصمهم إن راجعوه، فإن قابلت مثل هذا فاسأله: هل يجد في الماضي والحاضر من اتخذ عمره حجة لئلا يحترم الناس؟ هل يجد؟ فليُسمِّه لك إن يجد، ولن يستطيع أن يسمي أحدًا!
وإن قابلت من ينكر أن معاني الأخوة ورجاحة العقل ومحاسن الأخلاق ورقة القلب في الناس لا تقتضي عمرًا معينًا ولا يقتضيها عمرٌ محدد فاسأله: هل وجد أن النبي موسى -عليه السلام- كان أسن من أخيه هارون؟ هل وجد أن النبي يوسف -عليه السلام- كان أسنّ أخوته؟ هل عرف سورة في القرآن اسمها المجادلة؟ هل عرف الأرقم بن أبي الأرقم الذي التجأ ببيته إمامنا ومعلمنا -عليه الصلاة والسلام- ومن معه أول الرسالة، وهل وجده أسنهم جميعا؟ هل عرف أسامة بن زيد أو عبدالله بن عباس أو محمد بن القاسم؟
لو علم ذلك وفهمه وتأمله، وغيره لا يحصى في كل أمة وتاريخ، لما نفّر منه القريب والبعيد، ولارتاح وأراح وسعد وأسعد، ولربح عظيم الأجر من مولانا العظيم والشكر والحب من الناس. وحدُه العاري من خلق وعلم ورزانة، طالبُ الدنيا -ومثله نادر بحمد الله- تجده يتأرجح بين الناس بقشة السن ينشد بها وجوده من ألسنتهم ونظراتهم وأفعالهم.
أما ذو الأدب والمعرفة والحصافة -وهو أكثر من حولك- فقد استغنى عن استجداء شخصيته والمخاصمة من أجل إثبات وجوده. ومِن قبلُ ومِن بعد، هل مقياس المرء رضا المخلوق أم رضا الخالق؟ وهل القوة تُستمد من المنفصل، أي من الناس، أم من المتصل، أي مما يكتسبه المرء لذاته بتعب وتصبر وتفقه وتأدب واطلاع؟ وهذا المكتسبُ في العقل والوجدان وأثره في القول والعمل -ولا شيء سواه- هو الذي يحدد لصاحبه المصير، إما إلى نعيم وفير أو إلى قاع السعير.
من أجل السلامة والسعادة
أخي العزيز. قد تجد منكرين قليلين لكلامي مع أنه ليس من وضعي فقد رُفعت الأقلام وجفت الصحف. نقلتُ وقائع مشهودة وحقائق واضحة وضوح الشمس وفي سائر الأمم والأديان والتواريخ. هُضمت حقوق وبُترت علائق ووئدت أفئدة وتعطلت بيوت وضاعت طموحات أحيانًا بسبب جهالة قلة من البشر ومن اتصل بهم. لربما تجد إنكارهم من سوء فهم أو من عجلة، فاطمئن ولا تبالي، فالواعون المتنبهون الأخيار هم الكثرة حولنا وفينا بحمد الله. قد يقول قائل: ما دام الذي ذكرته هو عن قلة نادرة فلم تذكره إذن وتهتم له؟ والجواب هو أن أحدنا إذا ما رأى ثمرة فاسدة خشي ضررها على ما حولها وعلى نفسه فنبذها إلى غيرها ونبّه عنها ودل على جذورها.
وختام كلامي يا أخي الحبيب، أيها الإنسان بخلقه وعلمه ووعيه، إننا نحترم السن ونقدمها، فاذا آذت أعزاء لصاحبها ولنا وآذتنا، وإذا عكرت السعادة بيننا، فالإعراض سلامةٌ في احترام. وساعة تصادف مسيئًا يظهر احتقاره لأنه أسن منك، فذكره بأسماء وأعمار كثيرين في الماضي والحاضر، وفي أقصى الأرض وأدناها، نبغوا وسادوا في كثير وقليل وليسوا بأسن منهم، ثم انظر هل عنده الجرأة على الإنكار؟
وإن وجدته لا يعطيك اسمًا واحدًا يحاجج به عن حاله الغريبة، وهو لن يجد، ثم وجدته لا يسمع ولا يرعوي فاجتنبه تسلم، فالالتصاق بمثله خسارة لك واغراء له. وخالط الناس بفطرة الأخوة العطرة الحرة كما صنعها خالقها، لا حواجز فيها ولا تمايز، كي ترتاح وتريح ويطيب عيشك وتطمئن. وأنا مثلك أجتهد ولا يعلم أحدنا من هو أفضل. والحمد لله على نعمة الإيمان والعقل والوجدان.