لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
لا يَخفَى على أحدٍ توجُّهُ العالَم اليوم نحوَ الماديةِ والبناء الحضاري الشَّكلي، وهذا التوجُّه يَتبنَّى فكرةً مفادُها: أنَّ وظيفةَ الإنسانِ التي خُلِقَ مِنْ أجلِها هي عمارةُ الأرضِ وحسب، وما سِوَى ذلكَ وَسِيلَة لها -أيْ وسيلة لهذهِ العمارة- ولا يُعتَد بالقِيَمِ ولا يُعترفُ بأيِّ لغةٍ سِوى لغةِ المالِ وبناء الحضارات حتى لو كانَ الإنسانُ وقودًا لها. والجديرُ بالذكرِ أنَّ العالَمَ لم يصِل لهذهِ النقطة فجأةً وبدونِ أسباب، بل تَدرَّجوا في سُلَّمِ التفسيراتِ والتحليلاتِ الفكريةِ حتى وَصلوا لهذهِ النتيجةِ غير الصحيحة.وعلى الضَّفَّة الأخرى رَأْيٌ آخرُ مُخْتَلِف تماماً مِنْ حيثُ المبدأ والمضمون، وهو قَرِيب للقلبِ والعقلِ معاً، وهذا الرأي هو مُسَلَّمَة عَقْلِيَّة فِطريّة وهي: أنّ وظيفةَ الإنسانِ هي العبودية، أيْ: إنَّ الله خلقَ الإنسانَ وأرسلَ الرُّسُل وأنزلَ الكُتبَ ليَدُلَّ الناسَ على توحيدِهِ وعبادتِهِ بعدَ أنْ تقرّرَ عندهم بالعقل والفطرة ربوبية الله تعالى، قال تعالى: {ومَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ والإنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
علاقتنا بالله، والنفس، والآخرين
فإذا فهِمنا هذهِ الغاية على حسبِ مُرادِ اللهِ نكونُ قد حدَّدنا علاقتَنا باللهِ والنفسِ والآخرينَ جيدًا، فأيُّ خللٍ يَحدُثُ وَيَمَسّ العلاقة مِنْ حيثُ الترتيب، سيُسبّبُ لنا عدةَ مشاكلَ نحنُ في غنًى عنها، وَسَيَظلُّ شبحُ الخوفِ مِنَ الفِراقِ وخسارةُ الأشياءِ يُخيّمُ على حياتِنا، وانطلاقًا مِنْ قاعدةٍ عقلانيةٍ وبراغماتيةٍ جدًّا، وهي: أنّ المصلحة الدائمةَ والأبدية مُقَدَّمَة على المصلحةِ الآنِيّة، عليه: فإنَّ تقديمَ الآخرةِ على الدنيا والسعيَ لها عن طريق العبادةِ أولًا ثم تأتي الوسائل المساعدة مِنْ إعمارٍ وتوظيفِ أمورِ الدنيا لها ثانيًا، يُعتبرُ عملًا عقلانيًّا بَحْتًا.والطبيعي أنْ يكونَ المِعيارُ الذي نَقيسُ بهِ أعمالَنا هو مَدى صلاحِها، وتأثيرها على الطريق المؤدي نحو الآخرة، وهذا عكس المعيار الذي يَعملُ بهِ جُلّ الناس، وهو أنْ يَقيسُوا تصرفاتِهِم بناءً على استفادتِهِم منها قَبْلَ كل شيء، ثم رَأْي الناسِ فيهم. والتفكير على هذا النحوِ سيَصنع مِنّا ريبورتاتٍ تُحرِّكُها الشهوةُ والمصلحةُ فقط، ولا وجودَ لخشيةِ اللهِ وللقِيمِ في قاموسِنا.أيضًا سيُفاقِم مِنْ مسألة تعلُّقِنا بممتلكاتِنا، وبالأشخاصِ في حياتِنا، وسنعتَقِد أنّ ما بين أيدينا الآنَ لا يُمكن خسارتَهُ، وهذا الاعتقاد يُمهِّدُ الطريقَ أمامَ ضَعف الإيمان؛ الذي سيؤثر على علاقتنا بالله. فالإشكالُ الذي نعاني منهُ هو ترتيب الأولوية في العلاقات، بالإضافةِ إلى تمسُّكِنا بالمَظاهر، وصناعةِ فندقٍ فخمٍ في قلوبِنا يَسكنهُ رأيُ الناسِ بنا، والذي نخشاهُ- أيْ رأي الناس- أكثرُ مِنَ الله.كلّ ذلكَ نَاتِج عن فهمٍ خَاطِئ لِلزُّهْدِ، فنحنُ لم نستطِع المزجَ بينَ الزهدِ وغرائِزِنا الدنيوية، وينتِجُ عن هذا إما ظُلمُ أنفسِنا بعَزْلها عن الحياةِ بدعوَى الزهد، أو زيادةُ تعلُّقِنا بالدنيا والأشخاص وإطلاقُ النفسِ بلا كبحٍ لجِماحِها، والذي سوفَ يؤدي إلى قلبِ الأولويةِ في العلاقة ذات الترتيب السابق: الله، ثم النفس، ويأتي الناس آخِرًا.
مفهوم الزهد الحقيقي
عندما سُئلَ الإمامُ أحمد هل مَنْ يملك 100 ألف زاهد؟ قال: [نعم، بشرطِ أنْ لا يَفرحَ إذا زادَ ولا يحزَن إذا نَقَص]، إذًا الزهد لا يعنى ترك الدنيا، وإنما يعنى عدمَ التعلقِ بها وبملذّاتِها، وأنْ ننظُرَ لها بكلِّ ما فيها بعينِ الزوال.حقيقةً، الإسلامُ يوفّرُ لنا ثُلاثيةً يستحيلُ أنْ تجِدَها في أيِّ دينٍ آخر، هذه الثلاثية تُحاكي محركاتِ الإنسانِ الرئيسية، وهي: [العقل/ والنفس/ والعاطفة]، فالأحكامُ في الشريعةِ الإسلامية ليست مُجردَ قفزةٍ إيمانية، وإنما هي عَقْلِيَّة يتقبلها أيُّ عقلٍ صريحٍ حياديٍّ مُتجردٍ مِنَ الأهواءِ، ولم يغفل أيضًا عَنِ الجانبِ النفسي، بحيثُ يعطيكَ منهجًا يبدأ بالعِلمِ والاستدلال والإيمان وينتهي بالعملِ والسلوك، وما بينهما مِنْ مشاعرَ وعواطفَ تُوصلكَ للسعادة والرضا.
هل يمكن تطبيق الزُّهد؟
وكل الأئمة والصالحين تَنَبهوا لمسألةِ ارتباط الزهد -بمفهومِهِ الصحيح- بترتيبِ الأولوياتِ بالعلاقةِ مع اللهِ والنفسِ والناس، يقول الحسن البصري رحمة الله عليه: [
رحمَ اللهُ أقوامًا كانت الدنيا عندهم وديعةً، حتى ردُّوها إلى مَنِ ائْتمَنهم عليها، ثم راحوا خِفَافًا غير مُثقَلين، ولقد أدركتُ أقوامًا كانت الدنيا تتعرَّضُ لأحدِهِم وإنهُ لمجهود، فيَتركها مَخافةَ الساعة]، هم وصلوا لتلك الحقيقة، واستطاعوا تطبيق الزهد، وطالما لدينا تطبيق بشريّ للزهد؛ هذا يعني إمكانية تطبيقنا له أيضًا، فكلنا بشر.
الغاية الحقيقية لوجودنا
يجُبّ علينا فهم الغايةِ الحقيقية مِنْ وجودِنا، وأننا قد جِئنا للاختبار، وكلُّ ما نحصل عليهِ في هذهِ الدنيا ما هو إلا جُزْء مِنْ ذلكَ الاختبار، وسيزولُ ذلكَ الافتتان بالدنيا وتَختفي حَضَارَاتهَا كما حدثَ على مرِّ التاريخ، وسنُوَدّع كلَّ ما نملك عندَ أولِ خطوةٍ في الحياةِ الأبدية، قال تعالى: {وتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُم}،فبمجردِ أنْ يصِلَ الإنسانُ إلى قناعةٍ أنهُ زَائِل غيرُ مُخَلّد، عَابِر لن يمكثَ طويلًا؛ سيُرتِّبُ أولوياتهِ بناءً على قربِها مِنَ اللهِ أولًا ثم تأتي البقية، وسينقُشُ قول سفيان الثوري -رحمهُ الله-: [الزهدُ في الدنيا قِصَرُ الأمل] سينقشهُ بماءِ الذهب على سِجلاتِ الأيام، ويتخذها قانونًا، لأننا مجرد عابرين.
إليك أيضًا
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد