لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
الكثير من المفاهيم الإسلامية تعرضت للتشويه، إما بقصدٍ من أعدائه، أو بالخطأ من قبل مؤيديه، الذين اتخذوا الطريق الخطأ للدفاع عنه، فوصل بهم الحال لحد تَمْييع الكثير من مفاهيمه؛ لمجاراة الأمم الحالية، التي تدعي تقدمهم على الصعيد الإنساني والحقوقي. ومن أبرز هذه المفاهيم هو الجزية، وأهل الذمة.
هل الجزية اختراع إسلامي؟
الجزية ليست من صنع الإسلام، فقد كانت موجودة في الأمم السابقة، لكن بشكل فج، وتعسّف يتخلله ظلم وعدوان، فقد ﻋُﺮﻓﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻋﻨﺪ اﻟﺮوﻣﺎن اﻟﺬﻳﻦ ﻓﺮﺿﻮﻫﺎ على ﺳﻜﺎن سواحل آﺳﻴﺎ الصغرى ﻟﺤﻤﺎﻳﺘﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﻬﺎﺟﻤﺔ الفينيقيين، كما ورد ذكرها ﻓﻲ إﻧﺠﻴﻞ ﻣﺘّﻰ أن ﺍﻟﻴﻬﻮد سأﻟﻮا عيسى: “ﻫﻞ ﻧﺪﻓﻊ ﺍﻟﺠﺰﻳﺔ ﻟﻘﻴﺼﺮ؟ فسأﻟﻬﻢ ﻋﻦ ﻋﻤﻠﺔ اﻟﺪﻓﻊ فأﻋﻄﻮه دﻳﻨﺎرًا ﻓﻮﺟﺪ ﺑﻪ ﺻﻮرة فسأل، ﻟﻤﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة؟ ﻗﺎﻟﻮا ﻟﻘﻴﺼﺮ. ﻗﺎل: إذًا أدّوا ﻟﻘﻴﺼﺮ ما لقصير وﻟﻠﻪ ما لله”.وورد ذكرها أيضا ﻓﻲ رﺳﺎﻟﺔ بوﻟﺲ لأﻫﻞ روﻣﻴﺔ : “اﻟﺠﺰﻳﺔ حق واﺟﺐ على الإﻧﺴﺎن يؤديه ﻟﻠﻤﻠﻮك والحكام والأﻣﺮاء”، وذكر “فأﻋﻄﻮا اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻗﻬﻢ اﻟﺠﺰﻳﺔ ﻟﻤﻦ ﻟﻪ اﻟﺠﺰﻳﺔ والجباية ﻟﻤَﻦ ﻟﻪ اﻟﺠﺒﺎﻳﺔ”.إذًا الجزية ليست مُحدَثة، وإنما لها تاريخ طويل، ولأنها تحمل فكرة براغماتية ومنطقية، كان يجب تعديلها وإزالة ترسُّبات أعمال البشر من عليها، من ظلم واستبداد. واعتمادها ولكن بضوابط عادلة ذات بُعد فكري وأيديولوجي وإنساني بحت.
مفهوم الجزية في الإسلام
الجزية ﻓﻲ اﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ ﻫﻲ ﻣﺎ يعطيه أﻫﻞ اﻟﺬﻣﺔ ﻣﻦ نقود ﻣﻘﺎﺑﻞ حمايتهم، مع تركهم على دينهم، ولهذا لم يفرض الإسلام الجزية إلا على كل من يستطيع حمل السلاح، مُسْتثنِيا من ذلك النساء، والصبية، والمجانين، والرهبان، والشيوخ. ودليلها من القرآن قال الله تعالى:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، وصاغرون هنا بمعنى ترك سلاحهم والاستسلام.ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﻨﺒﻲ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ- ﻟﻤﻌﺎذ ﺑﻦ ﺟﺒﻞ : “أن اﻓﺮض ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻟﻢ ﻣﻨﻬﻢ ﺩﻳﻨﺎرًا” ويجب أن يكون المبلغ مناسب جدا لقدرات الذمي، وهي تختلف من زمن لزمن ومن مكان لمكان.يقول المؤرخ الغربي “آدم ميتز”: “كان أهل الذمة –بحكم ما يتمتَّعون به من تسامُح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم– يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قُدرته… وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حملِ السلاح؛ فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهِّبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يَسارٌ”.
الجزية مقابل ماذا؟
ومقابل هذه الجزية يتحصل أهل الذمة على الكثير من الحقوق أهمها الحماية من الاعتداء سواء داخليًّا أو خارجيًّا، وحماية أموالهم من السرقة، وإقامة الحدّ على المسلم إذا قام بسرقتهم. ولأن الإسلام يعتمد اعتمادًا كليًّا على العقيدة والاعتقاد، أسقط واجب الجهاد على الذميّ، وتركه لأبنائه المسلمين، فليس من المنطقي أن يحاربوا من أجل مُعتقد لا يعتقدونه.كما لأهل الذمة ما كان حلالًا في دينهم، حتى لو كان حرامًا في الإسلام، وتقضي لهم المحكمة الإسلامية بما في شريعتهم، كالزواج من غير شهود، أو دون مَهر أو حتى أثناء العِدة. فقد كتب الخليفة عمر عبد العزيز رحمه إلى التابعي الجليل الحسن البصري -رحمه الله- مستفتيًا: “ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هم عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير”؟ فأجابه الحسن البصري: “إنما بذلوا الجزية ليُتركوا وما يعتقدون.. وإنما أنت متّبع لا مبتدع والسلام”.ولا يوجد هناك مانع في اندماجهم في المجتمع الإسلامي، وأن يشغلوا أيّ وظيفة عدا القضاء والولاية، كما لهم الحق في الاحتفاظ بأراضيهم، ويَرِثها وَرَثتهم، وألا يَخرجوا منها ولا من غيرها من أملاك، وإذا تسبّب مسلم لممتلكات الذمي بالتلف (ﻣﺎل ﺣﺮام، أو خمر، أو ﻟﺤﻢ خنزير) ﻓﻌﻠﻴﻪ ﺗﻌﻮﻳﻀﻪ. وكعادة الطاعنين هناك من يُروِّج لقول إن الجزية ما هي إلا وسيلة ضغط لدخول الذميين في الإسلام، وهذا القول ينمّ عن عدم الإحاطة الكاملة بضوابط الجزية، وهو باطل للأسباب الآتية:١. لو أن الذمي دخل الإسلام ستسقط الجزية ولكن سيكون عليه دفع الزكاة، وهي أضعاف مضاعفة وتفوق قيمة الجزية، كما أن الزكاة تؤخذ من الزرع والمال والمواشي والذهب، وهي واجبة على كل بالغ عاقل سواء كان رجلًا أو امرأة، شابًّا أو شيخًا، بخلاف الجزية التي تؤخذ من النقود فقط، وفرض على من كان قادرًا على القتال.٢. سيتوجب على الذمي الجهاد لأنه دخل الإسلام وأصبح فردًا منه.وإذا نظرنا بعين الحيادية ومنطق المصلحة العامة، فقد فرض الإسلام للجزية، وتأطيرها بإطار المنفعة المتبادلة، فكل تلك الخدمات التي تقدمها الدولة الإسلامية لرعاياها غير المسلمين وعلى رأسها الحماية، مع ضمان حق الاعتقاد وحرية الاختيار، مقابل مبلغ زهيد، يعتبر قمة العدل والمدنية إذا جاز التعبير، فهو حق للدولة وأحد أشكال مساهمة الرعايا في بناء دولتهم.
إليك أيضًا
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد