لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
[Mank 2020] هو فيلم دراما وسيرة ذاتية أمريكي من إخراج [ديفيد فينشر]، مبني على نص من كتابة والده [جاك فينشر]. قصته تتبع السيناريست [هيرمان جي مانكيوز] وصراعاته مع المخرج [أورسن ويلز] حول نص فيلم [المواطن كين] [Citizen Kane].
تأريخ مانك
في قصيدة جميلة ومُتْقنة لعصر مضى عليه الزمن، يزيل [جاك فنشر] القليل من الغُبار من فوق كتاب رحلة هوليود الطويلة، ولكن هذه المرة مع مؤلف سيناريو [Citizen Kane]، في محاولة منه لإنصافه تاريخيًّا، فالفيلم نفسه لا يحتاج إنصافًا كونه يصنف واحدًا من أعظم أفلام التاريخ -أقصد المواطن كين-، لكن ما مَيَّز فيلم مانك ليس فقط هوليود، بل أيضًا ما رافق الأوضاع السياسية والاقتصادية ومدى تأثيرهما على الصناعة، ومدى تدخل الصناعة نفسها -أقصد السينما- في تقرير سياسة واقتصاد هذه البلاد، ورغم تطرق [المواطن كين] لهذه الفكرة من “وجهة نظر أخرى”، إلا أنّ هذا الفيلم عن صانعه نفسه، فيتحول النص بذلك إلى تأريخ للـ[مواطن كين].
وكما أطلَقَ عزيزنا [Mank] مَلْحمةَ [المواطن كين] بأسلوبٍ ثوريّ، يقرر [ديفيد فينشر] أن ينشر مَلْحمة والده الشِّعْرية والتاريخية بأسلوب مختلف لم نعهده في أفلامه قَبْلُ، ولكنه ظلَّ محتفظًا بجوهره الثابت بإسقاطاته على الواقع، محولًا نصّ والده إلى ملحمة أخرى بدَوْرها، ولكن في زمن آخر يتميّز بما تميّز به الزمن الذي فات.
ترابُط المواطن كين ومانك
وبناء على ما سبق، قرر [فينشر الابن] أن يخرج الفيلم بالأبيض والأسود، كتعبير عن الأصالة التاريخية لما سترونه، فتحول الفيلم بذلك إلى تأريخ لحاضره -أي الثلاثينيات- فخرج من كونه مجرد نصّ ليصبح واقعًا، وخرج التمثيل من فرْضية السرد لحقيقة الوجود اللَّحظي، واكتملت الملحمة الشعرية العظيمة، بأداء أسطوري من [غاري أولدمان] والذي استطاع أن ينقل لنا -بلا تكلف- بساطة وذكاء بطلنا الحاد، ميوله الكحولية ولسانه السليط، وشخصيته صعبة الانقياد.
وفي محاولة من فينشر للتباهي “بقسوة”، قرر استخدام أسلوب مختلف في سرد [Mank] كما حدث في [المواطن كين] ليشابهه في محاولة لثوْريّة الإخراج، حيث كان يقفز بين الماضي والحاضر والمستقبل داخل الأحداث، ليحاول أن يجعل هذا الفيلم نفسه نظرة على كيفية خروج نص فيلم [المواطن كين] إلي النور، أو حتى سبب تميُّزه وثوْريته لزمانه، وهنا فقط يتضح لك كيف كان ينظر [هيرمان] إلي طريقة كتابة [المواطن كين]، ثم يتحول الفيلم من مجرد تأريخ لشخص أو فترة زمنية، إلي حالة اتّصال فنية مع ملحمة [هيرمان]، وفي النهاية ستشعر بالاتصال بين الواقع والفيلم، وبين [عامي 2020 و 1941] في حالة عظيمة من سمو الإبداع الفني والإبداع الرُّوحي الخالص لوالده الراحل “كاتب نص مانك”.
نهاية الفيلم الفنية
وأخيرًا نقترب من النهاية، ويحين وقت اتخاذ القرار، هل يجب أن يضع [هيرمان] اسمه على السيناريو أم يتركه لهم كما الاتّفاق، وحقيقة القرار هنا لا تحدّد [هيرمان] فقط بل كل ما يميِّز الصناعة، قرار [هيرمان] هنا هو توضيح قوي أن القرد الحقيقي ليس كاتب السيناريو أو المخرج، فالصناعة ليس لها قيمة بلا سيناريو متقن ومخرج مبدع، أما من يرتدي بَذْلته المُرَصَّعة بالياقوت ويعتقد للحظة أنه يمسك الصناعة بين يديه لأن هذا الفنان المتجول سيموت جوعًا، فيجب أن يعيد التفكير.
وبهذا فقد أنصف الواقع [مانك] بينما دمَّر السيناريو نهاية [كين]، والذي مات وحيدًا وهو الذي كان يسعى للحب طيلة حياته، بل وحتى [روزبد] لم يُفهم معناها وحُرِقت جهلًا، لتُمْحى كل ذكرى له في هذا العالم، ولا يبقى غير السينما لتذكِّر الناسَ به، ليؤكد [هيرمان] بهذا النصّ، سلطته على كل كبار صناع القرار في هوليوود.
اختيار موفق لنتفلكس
من الواضح هنا أن الفيلم هو لنوعية بعينها من المشاهدين، وسماح [نتفلكس] لـفينشر بالاعتماد عليها ليخرج هذا النص إلى النور هو نقطة ارتكاز في مستقبل [نتفلكس]، والذي يعتمد علي الترشح والفوز بالجوائز العالمية؛ لتثبت أنها منافِس عالَميّ لأكبر الأستوديوهات، وليست مجرد شبكة لصناعة المحتوى اللَّحْظي، وفي سنة مثل [2020] جاء فيلم فينشر ليملأ فراغًا قاسيًا بقصيدته المذهلة، والذي لن يفشل في شباك التذاكر مثل [Ed Wood]، بل وسيصل لمشاهديه المطلوبين، ورغم عدم ترشحه للكثير من جوائز الأوسكار -كما أمَّلت نتفلكس- فإنها وضعت حجرًا آخَر لمستقبلها الواعِد.