لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
لطالما تساءلتُ: ما علاقة السيارة المعروضة للبيع بالمرأة التي تقف بجوارها؟ فهي لم تشارك في تصميمها أو صناعتها ولا حتى طلائها، وفي إعلان آخر: ما علاقة المرأة بملابس الرجال؟ فهي أيضًا لم تشارك في إنتاجها، حتمًا هناك علاقة خفيّة يشوبها الغموض وحتمًا ليست علاقة بريئة.
كل هذه التساؤلات قادتني للبحث في الموضوع، لأصطدم بواقع يملؤه الجشع الذي يقود العقول البشرية إلى ابتكار سُبل قَذِرة لاستغلال كل شيء من أجل كسب المال وحسب، واتّضح لي أن هناك أياديَ تسعى لبناء صرح من عدم اللاأخلاقية في تعاملها مع المرأة، وتُعطي المُسوِّغات المَدْعومة بشعارات مستهلَكة، اتّضح لنا خُبْثها منذ زمن.
استغلال المرأة في إعلانات لمنتَجات لا علاقة لها بها، يعرف بمصطلح “تسليع المرأة”. هذا المصطلح يشير إلى التعامل مع المرأة على أنها سلعة تُباع وتُشترى وفقًا لمعايير السوق. فقد أصبحت المرأة أداة لترويج المنتجات، حتى لو كانت هذه المنتجات لا تَمتّ بأيّ صِلة للمرأة، وفي الغالب تُظهر الإعلانات المرأة بأنها مخلوق مُجرّد من القدرات العقلية ومهانة.
بِداية التسليع
كان أول ظهور للمرأة في الإعلانات واستخدامها كأداة ترويجية في ١٩١١، في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ظهرت المرأة على أنها زوجة يقدم لها زوجها صابونًا كهدية، وتم إرفاق الإعلان بجملة إيحائية، وخادشة للحياء. فلاقت الدعاية حملة رفض كبيرة في الصحف والمجلّات، سَرْعان ما انطفأت جَذْوتها، ولم توضع أيّ قوانين تُحرّم استخدام المرأة على هذا النحو المُخجِل والسيّئ.
وبَعد كل هذه العقود أصبح استخدام المرأة عملًا مشروعًا قانونًا، ومقبولًا اجتماعيًّا، وذلك راجِعٌ لعدم وجود مانع قانوني هذا أولًا، وثانيًا التركيبة البشرية التي تتقبّل الأشياء، إذا ما تم عرضها عليها بشكل متكرر وبوتيرة مستمرة، وبتفنُّن في طُرق الجَذْب.
فكَمْ من أشياء كانت مُستهجَنة، ولا يمكن حتى التفكير بها مجرد التفكير، واليوم أصبحت أقل من عادية ومُرحَّب بها، وإذا تم رفضها ونقدها من أحد الأشخاص؛ يُنظر إليه على أنه متخلِّف، قد سقط من أحد كتب التاريخ.
الارتباط بين جسد المرأة والسلع
يقول الدكتور مصطفى محمود في كتابة الروح والجسد: “لقد أصبح الجسد ماركة مسجلة، نُروِّج بها أيّ بضاعة، صورة المرأة وهي تعويذة التاجِر الذي يرسمها على السجائر، والخمور، والكاميرات، وحتى معاجين الأسنان”.
فارتباط المرأة بالسلعة يؤدي إلى تكوين صورة وَهْمية للمنتج ملتصقة بصورة الإغراء، فكل الإعلانات تعتمد على عاملَيْن اثنَيْن هما: الإثارة، والجمال، وأيّ فتاة تفقد أحد هذين العاملَيْن يتم استبعادها من ساحة الإعلانات نهائيًّا، والتعامُل معها على أنها آلة لم تعد لها أيّ فائدةٌ.
تقول مؤلفة كتاب المرأة كسلعة: إن استخدام المرأة على هذا النحو؛ يعكس أيدولوجية الرأسمالية، ودور المرأة ضِمنها. وللأسف هذا لم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، بل تجاوَزه إلى وصول المرأة لمرحلة “التشيؤ”، والذي يعني النظر إلى المرأة على أنها شيء مادّيٌ، مُجرَّد أداة، مع تجاهُل كامِل لشخصيتها.
هذا التشيؤ هو انعكاس لكل مُمارَسات الاستغلال التي حدثت في العقود الماضية، فانتشار ثقافة الأولوية لجمال المَظهر، أدَّى إلى تزايُد اهتمام المرأة بعمليات التجميل، وقد يصلن في نهاية المطاف إلى هَوَس تجميلي لا يتوقف أبدًا.
مواقع التواصل الاجتماعي والتسليع
وفي ظل وجود مواقع التواصل الاجتماعي، وصل بنا الحال إلى تقديم قدوات سيّئة للمراهقات، تلك الفئة العمرية التي يسهل التأثير عليها، وانجرارها خلف صاحِبات الجمال المزيف، ليجدن أنفسهن ضمن السلع المعروضة يومًا ما. وإلى يومنا هذا لم نَرَ أيَّ محاوَلات للوقوف أمام هذا المدّ المؤذي من تُجّار النساء، ما عدا محاولات خجولة جدًّا من قِبَل بعض المنظَّمات التي لم يَسمع نداءها أحدٌ، ولم تقف بجانبها أيُّ منظَّمة أُمَمِيّة.
ففي عام ٢٠٠٢، صدر عن مجلس الأمن قرارات بخصوص تعزيز دور المرأة على حدّ قولهم، وتثبيت حقّها في الانتخابات، وغيرها من قضايا المرأة المبتذلة، ولكن تلك القرارات لم تتطرق إلى قضية تسليع المرأة، حتى ولو بكلمة واحدة، وهذا ما أثار استهجان الكثيرين، غير المؤثرين طبعًا.
لا شيء يقف أمام سلطة المال، ولا سيّما في عصر الحداثة المزعومة، لكن هنا يقع اللَّوْم أيضا على المرأة التي رضيت بهذه المكانة المذلة، وسلَّمت نفسها لعقول قَذِرة، ونفوس جَشِعة، هَمُّها الأول والأخير جَنْي المزيد والمزيد من المال، ولا يهم على حساب مَنْ، حتى لو كان المجتمع نفسه.