لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
لا نعلمُ هل مواقعُ التواصلِ تعيشُ فينا أم أننا نعيشُ فيها، هل سيطرتْ علينا أم أنها تحتَ سيطرتنا! مهما يكن لا أحد يستطيعُ أن ينكرَ مدى التأثُّرِ الذي غزى العالم مما أسمَوه “مواقع التواصل” ومدى التأثيرِ الذي أحدثتهُ بمستخدميها. لقد نجحوا في اختيارِ الاسم حتى جعلونا نصدقُ أنها مكانٌ للتواصلِ يجمعنا، يحدثُ به كلُّ ما يحدثُ في الواقعِ ولكن عن بعد. هل تمَّ غسلُ أدمغتنا وانتهت العمليةُ أم مازال هناك مستخدمون لم تنجحْ مواقعُ التواصلِ في برمجةِ عقولهم كيفما أرادت؟!
عالمُ الأصدقاءِ الإلكتروني
استطاعَ الأصدقاءُ اجتياحَ عالمنا كما سمحوا لنا باجتياحِ عالمهم. نستيقظُ لنرى ماذا علقتْ سعادُ على منشورِ أمل، وماذا قال سعيدٌ لمحمدٍ، وماذا نشرَ سالم، وهل هناك اعجابات على صفحاتنا أم أننا أصبحنا في عالمِ النسيانِ. هل أجابتْ منى على الرسالةِ أم تجاهلتها كعادتها. وماذا عن الإشعاراتِ، هل زادتّ أم نقصت لظرف أو لآخر؟ إنها الحياةُ الجديدةُ التي لم نحسبْ لها حساباً.
تلك التي طالتْنا كلَّنا فصارت جزءاً منا وصرنا جزءاً منها. علاقتُنا بأصدقائِنا أصبحتْ علاقةً إلكترونيةً بحتةً، تلاشتْ الرغبةُ في اللقاءِ واكتفينا بالنقر على الإعجابِ بما يكتبُ الآخرون أو التعليق لمجرد التعليقِ أو حتى المتابعة دونَ أن يشعرَ الصديقُ أننا نختبئ في صفحتِه طيلةَ الوقتِ. لقد اعتدنا على تلك الحياة وأضحى الخروجُ من هذا العالم أمراً مستهجناً وغريباً.
أخبارُ الموتى والمرضى الإلكترونية
عنوانٌ عجيب، أليس كذلك؟ دعني أوضحُ لك. قبل استخدامِ مواقعِ التواصلِ كانت تصلُنا أخبارُ الموتى والمرضى بعدَ أيامٍ أو شهورٍ وقد نتأخرُ في التعزيةِ والمواساةِ وقد يتطلبُ الأمرُ السفرَ من بلدٍ إلى بلد للقيام بواجبِ العزاءِ. أما مع مواقعِ التواصلِ فلا يلبثُ الميتُ أن يلفظَ أنفاسَه الأخيرةَ وتصعدُ روحُه إلى بارئها حتى يصلَ خبرُ موتِه لكلِّ الأمةِ شرقاً وغرباً وقبل أن يتمَّ دفنُه.
استسهلَ مستخدمو مواقعِ التواصلِ التعزيةَ في تعليقٍ خفيفٍ لطيفٍ تحت المنشور. فلا حاجةَ للسفرِ ولا للقاءِ أهلِ المتوفي ثم يكملُ تصفحَه بشكلٍ طبيعي كأن شيئاً لم يكن.
الإيجابي في الموضوعِ أننا أضحينا نشعرُ بأن الموتَ أقربُ إلينا من شراكِ النعل فقد يأتي في أيِّ لحظةٍ دون سابقِ إنذارٍ كما حدث مع من نسمعُ أخبارَهم كلَّ لحظةٍ. حتى المرضى فلديهم تقارير إلكترونية يرفعها ذووهم إما طلباً للدعاء او استعطافاً للآخرين، يعلمُها ويتابعها الجميعُ حتى يمنُّ الله على المريضِ بالشفاءِ أو يتوفاه سبحانه وتعالى.
الفئةُ الصامتةُ
هناك فئةٌ من المستخدمين مهما حدثَ من أحداثٍ وحروبٍ ومجادلاتٍ وصولاتٍ وجولاتٍ في مواقعِ التواصلِ تبقى صامتةً بلا حراك إلكتروني. لا تعليق ولا إعجاب ولا مشاركة ولا أي نوع من أنواع التفاعل ولو بالخطأ. تلك الفئة تحتاج لدراسةٍ عميقةٍ. كيف استطاعت ضبطَ نفسِها وكبحَ جماحِ رغباتِها الاجتماعية في التواصلِ مع الآخرين؟ كيف وصلتْ لمرحلةِ ألا تحركَ ساكناً مع كل تلك المستفزات حولها؟ هل هي اللامبالاة أم الإلغاء بالتعود؟ ورغم ذلك فإنني في الحقيقةِ أهنئ تلك الفئة على هدوءِ أعصابِها وعدمِ اشتغالها ولا انشغالها في التفاعلِ في مواقعِ التواصل.
هل نالتْ مواقعُ التواصلِ من جميعِ المستخدمين؟
بالطبع لا. فمازال هناك من يتمتعُ بالوعي ويدرك خطورةَ التخديرِ الإلكتروني للعقلِ والفكرِ فلم تجرفْه أمواجٌ مواقعِ التواصلِ ولم يغرقْ في محيطِها ولكنَّه بوعيِه الكامنِ لديه القدرةُ على التمييزِ بين الغثِّ والسمينِ والحقِّ والباطلِ وبين ما ينفعه وما يسرقُ وقتَه. فخصصَ صفحتَه لما ينفعُ الناسَ ويرفعُ من ثقافتِهم ووعيِهم. وتركَ فضولَ النظرِ والكلامِ واجتماعاتِ القهوةِ والشاي الإلكترونية.
إنه يحاولُ أن يسحبَهم معه إلى الأعلى ليستنشقوا عبيرَ هواءٍ نقي. نجحَ مع البعضِ وأخفقَ مع من تجذَّروا في أعماقِ مواقعِ التواصلِ فأصبحَ من الصعبِ اجتثاثهم ويحتاجون لقوى خارجيةٍ متعددةٍ وعليهم أن يدركوا ذلك قبلَ أن تغطيهم رمالُ المواقعِ المتحركة.
إنها منحةٌ من محنةٍ
مواقعُ التواصلِ كالموجةِ العارمةِ التي تقتلعُ كلَّ ما هو خفيف في طريقِها أمَّا الزبدُ فيذهبُ جفاءً وأما ما ينفعُ الناسُ فيمكثُ في الأرضِ. أولئك الذين زادتْ أوزانُهم المعرفيةُ والثقافيةُ والعلميةُ والفكريةُ مكثوا في الأرضِ وثبُتتْ أقدامُهم فلم ينجرفوا مع من انجرفَ فيها. إنها منحةٌ لتهذيبِ الذاتِ والارتقاءِ بها خصوصاً لمن لا يقتنعون بسلوكِ القطيعِ. فكُنْ واحداً منهم.