لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
يقول المتصوف الكبير ابن عطاء السكندري في الحكم العطائية تلك الحكمة العظيمة و العميقة:"كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز"ويومًا من الأيام وقف رجل أنيق يتفاخر بملابسه الغالية أمام سقراط فقال له: "تكلم حتى أراك".كلُّ نصٍ لنا يعبِّر عنَّا بشكل خفيّ، ولا أقصد ذلك التعبير الساذج المباشر عن وقائع فعلية، أو سرد أوصاف حقيقية فينا، لكن ذلك الكلام الذي يستطيع صاحبه أن يعبّر به عما يجيش في صدره و يدور في عقله فيؤثر في نفس من يقرأه بفضل حرارة الصدق وبراعة الفنّ.النصّ هو ابنٌ لصاحبه كونه ممتزجًا بذاته ووجدانه، وصادرًا عن رؤيته للعالم بعينٍ خاصّة، وفي كل أديب شخصٌ ظاهرٌ أمامنا وآخر مخبوءُ في كتاباته، كذلك الفنَّان بشكلٍ عام، وقد يرسم لنا الفن والأدب أعظم وأدق صورة لروح الإنسان، سواء كان هذا الإنسان هو الفنان ذاته أو البشر الآخرون.
الذاتية و الأدب
في هذا المقال أحببت أن أتكلم عن "الذاتية في الأدب"، تلك الصفة التي بات المؤلفون يأنفون منها بوعي منهم أو بغير وعي، وصار الكثير يتباهى بإمكانية الفصل التام بينهم وبين نصوصهم حتى لا تكاد تنسب إليهم عند القراءة.فاخترت رواية "سدهارتا" للألماني هرمان هيسه الحائز على جائزة نوبل للأدب، في محاولة مني لتظليل تلك القيمة الأدبية، ولبيان حقيقة التصاق المكتوب بالكاتب بعيدًا عن الإسقاطات المباشرة.ما الذي يفرّق الأديب عن غيره؟
الأديب الحقيقي عين باصرة مبصرة لكل شئ حوله، يستطيع برهافة حِسّ أن يلتقط أبسط الأشياء والمعاني، والتعبير عنها بخفة ودقة جمال، ولكل فنّان جماله الخاصّ به في ذلك التعبير وهي سمة أخرى من سمات الفنّ تسمى (التفرّد).سدهارتا
سدهارتا؛ نموذج فذّ للذاتية عند الأديب، ورواية رمزية بامتياز، وهي عبارة عن حكاية الفتى "سدهارتا" الذي يبدأ حياته ناسكًا في جماعة دينية يترأسها أبوه، يقدم القرابين، ويحفظ الصلوات ويتلوها لتطهير ذاته، لكنه ما يلبث أن يشعر بفجوة روحية عميقة، وثغرة لا تملؤها تلك الطقوس، و يظلّ متطلعًا إلى كمالٍ لا يدركه ولكنه يشعر بالتوق إليه ليهجر جماعة أبيه -رغم عدم موافقته- ويبحث عن هذا السلام في مكان آخر، وينتمي إلى جماعة "السافانا" الزاهدة في الجبال والأنهار ذات التعاليم التي تقسو على النفس فتحتقرها وتزين احتقارها في سبيل الارتقاء بها والسمو، ولكنّ سدهارتا وفي لحظة بالغة الكثافة والحضور يقرر أن ثمة شئ غير تلك التعاليم ينبغي أن يملأ بها روحه.يقرر أن يفتح لنفسه طريقًا آخر جديدًا لم يطرقه من قبل، فيقرر أن يتعلّم فنون الدنيا كما تعلّم فنون الدين من قبل فيذهب إلى الغانيا الجميلة "كامالا" كي تعلمه فنون الدنيا من كسب المال، الغرق في الحب، الغرق في الشهوات، فترشده الغانية حق إرشاد ويقع في حبها فتحب هي أيضًا ذلك السامانا الذي لا يجيد سوى الصوم والقراءة والكتابة."إن المعنى والحقيقة لا يحتجبان في مكان ما وراء الأشياء. إنما هما في الأشياء، فيها جميعا"
وهنا محطة فارقة من محطات حياة "سدهارتا" حيث ينظر لنفسه وللدنيا من عين أخرى غير عين العابد الزاهد، و هي عين المحب، وهنا فقط يتعلم الفتى معنى أن يحبّ نفسه بدلًا من أن يحتقرها، وهو مع هذا التغير الجذري دائم الشعور بأن داخله ما يجعله متفوقًا على الآخرين مرة بالعبادة ومرة بالحب وأخيرًا بالقدرة على الاستغناء عن كل هذا.وأخيرًا يختم سدهارتا حياته بالعيش على النهر تاركًا حياة الانهماك في الشهوات الذي حطم روحه وجعله مستقبحًا ذاته بغير عودة، ليعيش شبه زاهد وشبه محبّ ويكتشف الحكمة من الحياة على ضفاف النهر و هو الذي عاش طول عمره ظانًا أنه حكيم.