لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
طنطورية رضوى عاشور ليست بالعمل الأدبي الروائي الجانح إلى سرد أحداث تتصاعد عن أفعال شخوصها للوصول إلى غاية أدبية توصف أنها في بطن الأديب، إنها سورة من سور العقد الرمادي على الشام، أصفها بالسورة لخصوصية الأحكام التي شملت وأطلقت على المواطن العربي أثناء جريان تلك الحقبة، سواء كان باقيًا يخطو على أرضه، أو لاجئًا في مخيمات لبنان وسوريا، أو مهاجرًا في بلد من البلدان العربية أو الأوروبية أو غيرها.وأصفه بالعقد الرمادي على الشام؛ لأنه الانطباع الذي تبعثه الرواية أثناء قراءتها، الأحداث الموصوفة فيها تصيح: "انهزام، انكسار، احتلال، اغتصاب"، وترى مشاهد الشخصيات وأدوارهم المفردة كلها تهيم في فضاء يشبه عقدًا من اللؤلؤ، حباته تضيء: "مقاومة، انتصار، تضحية، شرف". الغايات الأدبية المنشودة من الرواية تهدف إلى التأصيل، التأريخ لكل فرع زيتون في المنطقة.عشت مع الرواية أسبوعين، أقرأ الفقرة الواحدة مرتين، بل وربما ثلاث مرات؛ فصرت بفضل رضوى عاشور مواطنًا من مواطني صبرا وشاتيلا، وأحفظ أين تقع مستشفى غزة، وأقلق إن تأخر عبد الكبير خارج المنزل، تضربني الهواجس: ترى أين يكون قد اختفى أمين أثناء مجزرة المشفى؟ هل قتلوه؟ هل أفلت منهم؟ هل أطلقوا سراحه فعاد إلى الطنطورة؟ ثم تغيظني نظرة اللبناني كأنني لاجئ من أبناء العمل.وهكذا، تعصف الرواية بالأذهان، تقدم موجز أنباء مفصلًا عن تاريخ احتلال البلد، كل خطوة صهيونية على أرض الشمال الفلسطيني، كيف كانت، وما الذي خلفته، وما أسبابها، وكيف استقبلها الأهل. نجحت الرواية في التعبير عن غاياتها من خلال ثلاثة محاور هامة -بالنسبة لي- وربما تتسع لأكثر من ذلك.
المحور #1: مصادر الرواية
نعلم جيدًا أن الروائية رضوى عاشور هي زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، والذي كان له إهداء الرواية منها، فكما ذكرت سابقًا أن الأديبين التقيا في جامعة القاهرة في أواخر العقد السابع من القرن الماضي، أو أوائل القرن الثامن منه، وتزوجا بعد عنت شديد من ذوي الروائية المصرية حسب ما جاء في قصيدة ابنهما تميم "أتوضأ من قبل الكتابة وأسمي" لكون الزوج فلسطينيًّا، واستحالة الزج بالشابة في أهوال القضية الفلسطينية التي استعرت آنذاك بنكسة عام ١٩٦٧م، وحرب أكتوبر عام ١٩٧٣م، مما ينذر بطقس غير مطمئن لمستقبل شابة مصرية في مقتبل العمر.ألهب عناد الأهل عناد رضوى، واختارت مريدًا زوجًا، ثم لم يكادا ينجبان ابنهما تميم، حتى أُعلن عن ترحيل الفلسطينيين إلى فلسطين إبان اتفاقية كامب ديفيد عام، فأُجبر مريد على ترك رضوى ووليدها في القاهرة والعودة إلى الديار، ومباشرة رؤيتهما أثناء الإجازات.وولد تميم البرغوثي عام (١٩٧٧م)، وشب في بيت أدبي من الطراز الرفيع، يقتسم القضية شعرًا ونثرًا، صارت توجهاته الأدبية كلها تخدم الصالح العربي، والدعوة إلى الوحدة العربية، وإعادة النظر في جانب التاريخ الإسلامي المشرق، وإحياء التراث الأدبي بشكل ودلالات موظفة لاقت استحسان الوسط الأدبي، فأنتج على الصعيد الفصيح (في القدس، مقام عراق)، وعلى الصعيد العامي في الناحيتين: المصرية (يا مصر هانت وبانت)، والفلسطيني (ميجانا)، فلم يبخل تميم ببيت شعر ولا مقطع على القضية الفلسطينية.تلك هي البيئة التي نشأت فيها الطنطورية، عمل مصري بروافد فلسطينية خالصة تنأى كثيرًا عن المصادر والمراجع الأكاديمية، التي تنقل الواقع من لحظة معينة، لا من لحظة حية، فيها دبيب الغادي والرائح. حين تنتقل من جزء لآخر أثناء الرواية تلمح بشكل كبير أثر بعض القصائد التي أنتجها تميم عن المجتمع الفلسطيني، فانظر مثلًا إلى بعض من أوصاف "رقية"، "أم الصادق"، "أم الأمين"، "أم محمد"، كأنك تلمح تقاطعًا جليًّا بينهن جميعًا وبين قصيدتي "جداتنا"، "ستي أم عطا"، "الجليل"، البناء الأدبي المحكم للمرأة الفلسطينية الريفية، ربة البيت التي تعلمت من الدنيا لا من الفصول الدراسية، ثقافتها تستمدها من الواقع المعاش والتراث الشعبي، مما يتيح لنا أن نقول: إن عمل الطنطورية من الأعمال غير الفلسطينية النادرة التي تتحدث بلسان فلسطيني حقيقي.
المحور #2: التاريخ الاجتماعي
توثيق الأحداث والوقائع الزمنية عادة يسلك مسلك الأسباب والنتائج، ويعمدُ إلى المنظور الحربي السياسي البحت، وعليه يصب العمل في قالب معروف، بطله القائد أو الجندي. لكن رضوى عاشور سلكت طريقًا مغايرًا في عملية التأريخ للحوادث التي تضمنها العمل، حيث لجأت إلى التأريخ والتوثيق الاجتماعي، برصد ردود المواطن الفلسطيني العادي ليس حتى مرموق المكانة فحسب، بل والقروي البسيط كذلك.فبدأت زوجة البرغوثي عملها بردة فعل أهل الطنطورة تجاه تواجد العسكر الإنكليزي في قطارات السكك الحديدية الممتدة بين حيفا والقرية، وكان ذلك دليلًا على أن الزمن وقتها كان زمنًا لم يدخل فيه اليهود فلسطين بعد؛ إذ إن احتلال الصهاينة فلسطين كان ردف رحيل الإنكليز، وهذا ما نلمحه جليًّا حين استغربت "أم الصادق" من قرار زوجها الذي وافق على زواج ابنتهما في حيفا قائلة: "وتغرب بنتك في حيفا يا أبو الصادق!!"، فحين احتدّ الجدال بينهما، لجأت أم الصادق إلى محادثة نفسها، والتوجس من مضايقات الإنكليز لها كلما عمدت إلى زيارة ابنتها في حيفا.أضف إلى ذلك عددًا لا حصر له من المذابح التي عنيت بها الروائية في توثيقها، حيث أسست لبيت فلسطيني كل عنصر فيه يمثل عينا ثاقبة على عنصر من عناصر المجتمع، فنشاهد مذبحة المركز مثلًا تصورها عدسة عبد الكبير، ومذبحة المستشفى تصورها عدسة زوجها أمين، وبعض مشاهد المقاومة تصورها عدسة عبد الصغير أثناء اعتقاله، ثم ماذا تفعل رقية؟رقية نافذة القارئ على البيت الفلسطيني اللاجئ، أسندت إليها رضوى عاشور مهمة نقل وقائع الأسرة اللاجئة. والمرأة في مأساة رضوى عاشور يغلب عليها طابع ربة المنزل، طابع المبتدأ، مجردة من العوامل اللفظية، متروكة على الفطرة، كأنها ترى في ذلك المنظور وتلك الزاوية صدقًا لا يتوفر في طائفة اجتماعية أخرى، والسر في ذلك أن المرأة القروية بحكم المحيط أسبق إلى إدراك ماهية ماهية ما توحي به الأمور.فصوت الرصاص عندها لا يعني سوى مصيبة، والزغاريد في عرفها لا تترجم إلا فرحًا، هكذا، لها قاموس هو أصدق في نقل النكبة وتوثيق أحداثها توثيقًا يخلو من الأكاديميات، والإغراق في السطر السياسي الثقافي، فسؤال الرواية المطروح - حسب رؤيتي - مضمونه "ماذا جرى؟" لذا؛ فهو سؤال ليس يطمح إلا إلى وصف اجتماعي صادق، ماذا جرى في النكبة؟ وما بعدها؟ ماذا جرى في المخيم؟ ماذا جرى في بيروت؟ فهذا بصورة مجملة ما عنيت بتوضيحه في المحور الثاني.
المحور #3: اختيار البطل
تعود رضوى عاشور إلى نهجها المتبع، المرأة، المرأة صوت صارخ في وجه المصيبة عند الروائية المصرية؛ كأنها تقول "الرجل يحزن والمرأة تصرخ" والقارئ يجنح إلى الصوت أكثر؛ من أميز ما وفقت فيه رضوى عاشور، وليس في الطنطورية فقط، بل وفي ثلاثية غرناطة أيضًا، هو اختيار عنصر الأنثى وتغليبه على طابع الرواية، لم؟يتفق الطابع الأنثوي والمأساة اتفاقًا منسجمًا، على عكس الطابع الذكوري، الميال إما إلى الكتمان والمضي، أو الانهيار دفعة واحدة، أما نواح المرأة ليس هنالك أصدق منه في نقل انتكاسة ونكبة كاحتلال فلسطين، القالب العاطفي عند المرأة -وبخاصة القروية- يتسع لتلك الشحنة المقصودة من الرواية.
إليك أيضًا:
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد