لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
تاريخ مِصر بشكل مُختلف، يَخُطّهُ بقلمه الكاتب والصحفي والشاعر المُبدع الكبير صاحب البهجة عمر طاهر ، لطالما أَرَدْت التعبير عن هذا الكتاب، لَكِن خِفْت ألا تُجيد الكلمات وصف ما جال بخاطري بعد قراءته. كتاب صنايعية مصر، هو أول عمل روائي أقرؤه لعمر طاهر، وكان من ترشيحات كثير من القُرَّاء الذين أُتَابِعهُم على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنا في الحقيقة مُنْتَشِيَة جدًّا بهذا الترشيح، لم أستمتع قط بقراءة كتاب بقدر استمتاعي بقراءة هذه التحفة الفنية البديعة. بعد الانتهاء من قراءته ظللتُ عدة أيام مدهوشة مأخوذة بجمال وروعة الكتاب، وكَمّ المعلومات التاريخية التي لم أكن أعلمها عن البُناة الحقيقيين لهذا البلد.
أنا شخصيًّا من مُحبي الاطلاع على التاريخ من خلال الأدب، فكان هذا الكتاب هو الاختيار الأفضل بالنسبة لي، وأُدَعِّم بكل ما أُتِيت من قوة لكتابة أجزاء أخرى من الكتاب حتى يتسنى للقارئ العربي معرفة المزيد عن البُناة الحقيقين لمِصرنا الحبيبة.
أول بطل مِصري تناول الكتاب قصته هو حمزة الشبراويشي صاحب فكرة كولونيا الثلاث خمسات. حمزة الشبراويشي هو مواطن مِصري عادي مُنحدر من قرية شبراويش بمحافظة الدقهلية، بدأ حياته المهنية في محل صغير لبيع العطور بمنطقة الحسين، ثم سرعان ما افتتح فرعًا له في الموسكي ثم وسط البلد، وبعدها تحول معمله الصغير إلى مصنع، وكان يزرع الليمون المُستخدم في صناعة الكولونيا بنفسه في حديقة منزله، وكان الملك فاروق يُقدم لتلك الحديقة جائزة سنويًّا كأفضل حديقة. حتى أُصيب بجلطة وَتُوَفَّى مع نهاية الستينيات. وتحول مصنعه إلى مقلب قمامة في نهاية المطاف.
تخيل الآن أن بين يديك الآن زجاجة كولونية ثلاث خمسات الشهيرة التي نعرفها جميعًا منذ الطفولة، لكن بعد معرفة من هو صاحب هذه الفكرة، وكيف تم تنفيذها، ستبدأ للنظر للزجاجة بشكل مختلف تمامًا، بل ستعتقد أن بين يديك تحفة فنية صُنِعَت بأيدي مصرية خالصة، وبِيعت لمعظم البلاد الأجنبية، ناهيك عن الكثير والكثير من الصناعات الأخرى.
هل سألت نفسك ذات يوم من هو صاحب فكرة صناعة الزجاج؟ أو هل رأيت كلمة ياسين محفورة أسفل قاع الكوب الزجاجي الذي تحتسي فيه “شاي العصاري” كما نقول نحن المصريين؟ ستجد أجوبة لتلك الأسئلة من خلال قصة محمد سيد ياسين ملك الزجاج ضد الكسر، وصاحب فكرة صناعة الزجاج بمصر، لكن من أين بدأ رحلته؟ بدأ رحلته بالسفر إلى ألمانيا، للاطلاع على المصانع هناك والتزود من المعارف والعلوم الخاصة بصناعة الزجاج ثم عاد بعدها إلى مصر، وبدأ بإنشاء مصنعه الذي في بدايته رفضت جميع البنوك تمويله إلا طلعت حرب. بدأ مصنعه بالنجاح والشهرة رُوَيْدًا رويدا، حتى أصبح كل بيت مصري لا يخلو من الأكواب الزجاجية التي يُنْتِجهَا مصنعه، أنتج ياسين فيما بعد زجاج السيارات، والبيوت، والأدوية، والطفايات، والنجف.
ثم بعد قيام الثورة، تم تحويل مصنع ياسين إلى مصنع قطاع عام وسُمّي بعد ذلك بالنصر للزجاج والبلور وضاع ختم ياسين الموجود أسفل الأكواب، لكن هذا لا يعني أننا لا نزال ندين له بالفضل في فكرة صناعة الزجاج بمِصر.
لن يتوقف حديثنا عندما سبق، بل سنتناول مُنتجًا هامًّا وأساسيًّا لا يزال يُبَاع حتى الآن، ويفضله الكثير من مختلف الأعمار، وهو منتج السعادة “شيكولاتة كورونا”، صف لي ما هو إحساسك عندما تذهب إلى السوق لتبتاع شيوكولاتة كورونا -المُفَضَّلَة لديك- بعد أن اطلعت على تاريخها، ومن هو صاحب فكرة إنتاجها، ولماذا سُميت بـ”كورونا” تحديدًا دون غيرها من الأسماء. في الحقيقة صاحب فكرة وجود مُنتج السعادة في مِصر هو اليوناني تومي خريستو الذي وُلِدَ وعاش في محافظة الإسكندرية، كان خريستو ينتقي العمال بعناية فائقة ويبتاع الماكينات من أوروبا، كان يهتم بصحة العمال النفسية وبأن يكونوا سعداء حتى يقوموا بصناعة مُنْتِج السعادة بحرفية فائقة، لذا فبعد ظهور ملاعب الكرة، قام ببناء ملعب خاص للعمال حتى يقوموا بالترفيه عن أنفسهم فيه، وكان يُسَمَّى رويال، كان ملعبًا يتميز بوجود غزال بري شارد، لكن ذات يوم وعلي هامش إحدى المباريات، قامت قذيفة كروية بالارتطام برأس الغزالة فماتت، فحزن لها خريستو حزنًا شديدًا، وقام بتسمية الشيكولاتة على اسمها. وطبعًا بعد الثورة تم تأميم المصنع، ومات شقيق خريستو ديمي حزنًا وقهرًا على ضياع الحُلْم.
لكن سرعان ما تمت عودة صناعة الشيكولاتة مرة أخرى على يد عمّ زكي المصري، القاهري الذي جاء إلى الإسكندرية طلبًا للرزق، وكان العجّان الأهم في المصنع_حيث التقط سر المهنة من الخواجة، وبعد تحول المصنع إلى قطاع عام، وظلت الإدارة تصدر له قرارات بالمد إلى أن تُوفِّيَ.
هذا إلى جانب الكثير والكثير من الصناعات الأخرى كصنايعي الأتوبيسات عبد اللطيف أبو رجيلة، والتي أصبحت بعد التأميم تُسمَّى بأتوبيسات النقل العام. وغيرهم الكثير والكثير من الأبطال اللائي نَدِين لهم بالفضل في رسم ملامح هذا البلد وتاريخ أهلها. والفضل كل الفضل إلى البطل صنايعي البهجة الكاتب عمر طاهر الذي أخرج هذا العمل إلى النور، ولولاه لم نكن لنعرف شيئًا عن هؤلاء الأبطال.
إليك أيضًا
قراءة في رواية: الأشجار واغتيال مرزوق عبد الرحمن منيف
لماذا يضيق الكتّاب اليوم بالذاتية في الأدب؟مراجعة رواية سدهارتا لهرمان هسه