لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
تُولد ذاتنا طالبة لمكانة، مكانة تحس بها وجودًا بين الناس. ولا أقصد بالمكانة العلوّ على الناس، ولكن أقصد بها المكان الذي نتواضع عليه في الحياة ونسير به لنحقق ذاتنا ونشعر أن لها قيمة. وفي كل مجتمع يكون أساسٌ لإعطاء هذه المكانة، وفروق يتفاوت إعطاء المكانة لها، فتنشأ الطبقات بين الناس. ورواية "مذلون مهانون" هي رواية كتبها دوستويفسكي في المجتمع الروسي القديم، ونحن سنحاول بناء على تحليلنا للشخصيات فهم المكانة لديهم، فنرى التقسيم الطبقي.
أساس المكانة "مكتسبة أو موهوبة؟"
نرى الكاتب يعرّف الشخصيات بناء على الأسرة وما ورثته عنها من مال وأملاك وأخلاق فيقول: الأسرة؛ عريقة؛ نبيلة، ورثت عنها الشخصية أرض كذا، التي عدد سكانها كذا، وأيضا حينما جاء أمير ذو أسرة عريقة وثراء ووظيفة مرموقة إلى قرية قال الكاتب: إن مجيئه أحدث جلبة واهتمامًا بين الناس. واستقبله حاكم المنطقة بحفاوة بالغة. وأيضًا حينما قال هذا الأمير للفتاة التي يريد ابنه زواجها وهو لا يريد: إنك متهالكة على الانتماء إلى أسرتنا العريقة. وأيضا عندما أهين رجل من هذا الأمير أخذ يبحث هذا الرجل عن أوراق تثبت أنه ينتمي لأسرة عريقة…وأيضا نرى السلم الوظيفي، فقد قال أب لابنه يعاتبه أنه لم يلتحق بخدمة عسكرية ولا وظيفة وهكذا سيكون فقيرًا، وأيضا يعرف الكاتب الشخصيات بناء على الخدمة العسكرية، وأيضًا هذا الأمير يقول عنه الكاتب إنه كان ظامئًا إلى المنزلة العالية، فلذلك استطاع بالمكائد والمؤامرات أن يحصل على وظيفة مرموقة. فيمكننا اعتبار أن المكانة إما موهوبة بالعائلة، وإما مكتسبة بالسلم الوظيفي على تنوعه، أو الخدمة العسكرية.
أدوات المكانة
كما رأينا فوجودك في أسرة يعني أنك ورثت منهم أملاكًا، يعني أن لديك مالًا، وأيضا الخدمة العسكرية تعطيك مالًا، وكذلك السلم الوظيفي. فأداة المكانة لديهم هي المال والأملاك، دونها تكون مالكًا مُسمى المكانة لا غير. ولذلك قد يستعمل المال ليكون هو المكانة، عندما لا يكون الشخص في أيّ مكانة من مكاناتهم، فالأمير قال للفتاة التي يريد ابنه زواجها: أنت لا تملكين اسمًا ولا ثروة.
المكانة العليا والتقسيم الطبقي
يمكننا فهم مما رأينا أنهم يعتبرون انحدارك من أسرة عريقة يجعلك في مكانة أعلى، انحدارك منهم بالمال والأخلاق، فالأسرة عندهم هي أصلًا ذات أملاك وأخلاق، ويمكننا فهم أنّ هناك تفاوت على حسب قدم الأسرة، وكبرها وأملاكها، وهذا أيضًا يعتبر في السلم الوظيفي والخدمة العسكرية، ولو كنت تملك هذه جميعًا فأنت المثل الأعلى في المجتمع، ولو كنت مثلًا تملك المال الكثير فقد تكون أنت المثل الأعلى أيضًا، فنقول هنا بمعنى أصح أن الأملاك والمال هو الأداة إلى المكانة العليا.أما أخسّ المكانات فهي الفلاحة، ويمكننا فهمها من أن الفلاح ليس سليل عائلة، وليس ذا أملاك ولا مال، ولا يشتغل في وظيفة، وليس ملحقًا بخدمة عسكرية، بل هو مجرد عامل في أرض مملوكة.
مظاهر المكانة
أول ما يقابلنا هو الإحساس بالعُلوّ لدى صاحب المكانة العالية، وهذا يعبر عنه الكاتب في موقف بين موظف وهذا الأمير فيقول الموظف بعد أن لم يردّ الأمير على سؤاله وذهب إلى حديث آخر: أضف إلى هذا إهانة أخرى، هي هذه الطريقة التي قاطع بها كلامي، دون أن يجيب على سؤالي ودون أن يحفل به على عادة أبناء طبقته الراقية، كأنما أراد بذلك أن يشعرني أني أسرفت في رفع الكلفة بيني وبينه، أنا أمقت في هذه الطبقة هذه الأساليب.وهذا الإحساس العُلوّ هو أداة تحقيق المكانة، وهو أيضًا أداة تحديد شكل كل طبقة، فيتحتم أن تكون كل طبقة مختلفة عن غيرها، وأن تعامل طبقا لهذا الاختلاف، فيجب أن تكون أخلاق ذوي المكانة العليا هي الأخلاق التي يتوارثها سُلّان الأسر، نبل وشهامة، وفصاحة وأدب متناهٍ وحركات بحساب، ولباس أنيق ومسكن فخم، ثم تتفاوت على حسب كل طبقة. فخسيس الأخلاق عندهم هو الفلاح، فقد قال أحدهم في الرواية: أنا قليل الأدب كفلاح.
أساس الاحترام "الذات أو المكانة؟"
تولد ذاتنا طالبة لاحترام، احترام تحس به وجودا بين الناس، والاحترام هو احترام للمكانة التي عليها ذاتنا، ولذاتنا من حيث هي ذات تعيش بين ذوات الناس، وطبيعة الاحترام هو ما نسميه بالأخلاق، وهي ما تحقق العدل بين الناس.عندما نرى استقبال الناس "الذين يعتبرون المكانة ولوازمها" للأمير الذي جاء قريتهم ونرى استقبال حاكم المدينة له، ونرى افتتان زوجين منهما بالأمير بعد اختياره لزيارتهما، يمكننا فهم أن هذا الاحترام المبالغ فيه له يَنْبع من المكانة التي لا تعتبر فقط الأخلاق بل تعتبر المال والجاه. وحين نرى رجلًا سليل عائلة ليست كعِظَم عائلة الأمير، أُهين من الأمير، فيرد على الأمير الشتيمة ويتشاجر معه تشاجرًا عنيفًا، نفهم أيضًا أن الاحترام يعتمد المكانة، فهو هنا كأنه يقول كيف يهينني؟أنا لست ضعيفًا، إنّ لديّ أملاكًا وعائلة. وأيضا عندما تتكلم أم عن ابنتها التي هربت مع ابن هذا الأمير الذي يحتقر ابنتها تقول: إن ابنتي من سلالة عريقة في حلبة النبل، ثم تأخذ تصف كيف أن زوجها أخذ يبحث في الأوراق ليثبت أنهم من عائلة نبيلة، فهو منزعج من كونهم يحتقرون ابنته، وهذا دليل قاطع على أن الاحترام للمكانة. وأيضًا عندما يقابل كاتب صديقه الذي لا وظيفة ولا شيء له، مصادفة لا مهرب منها، فيقول لصديقه: لقد تقابلنا أكثر من مرة ولكنك تهرب مني، فيجيبه صديقه: ألست أسيء إلى سمعتك وأنا على ما ترى من مظهر، والمظهر من لوازم المكانة كما قلنا، فالذات هي المكانة عندهم، والاحترام للمكانة.
إليك أيضًا
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد