لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
أعتقد بأن قراءتي الغير مقصودة والحرة في عالم الأحزان والآلام وآثار الحروب والدماء والتهجير وقصص الاغتصاب والحب والهجران كانت لها لطائف من نسماتٍ تهبط عليّ لتجعلني أكثر لطفًا ورقة وتفهمًا مما كنت عليه قبل أن ألتهم الصفحات متخيلًا مواقف الناس بانتظار ردود أفعالهم إزاء ما حصل لهم.
تريد أن تتلمّس المشكلات ويصبح عقلك عن لا وعيٍ منك مدينة كاملة من البؤس والحيرة والانتظار لردود الفعل تلك.
ربما لهذه القراءات أثر في فهم مساعي الآخرين مع تقبّل نزواتهم وأفكارهم المجنونة والعبثية والطفولية في كثيرٍ من الأحيان، أن تجوب عالم البؤس يعني أن تتقبّل كل الأطياف والأعمار والأجناس، فلا عِرق ولا لون ولا جغرافية تحكر أفرادًا معيّنين.
تجارب الألم هذه هي فرصة تأتي إليك دون عناءٍ منك، أن يحكي لك شخص كيف أنه قد عاشر الموت والمقابر، أن يصف مشهدًا دمويًا متعاملًا معه بدمٍ باردٍ لا إحساس له ليمضي بحياته كيفما أرادت له الأقدار، أن يعصف بمخيلتك الأطفال والنساء والعجائز قد تشتتوا فلم يبقَ لهم دار أو أرض تضمّهم ولا حتى سماء تأويهم.
أنت لا تتخيل فقط بل تعيش واقعًا مُرًا يقول لك في كل مرةٍ بأن للبشر صفات مشتركة، تؤكد لك في كل مرةٍ بأن الشر مستفحل في جنس بني البشر، لكنهم يغلّفونها برغباتٍ شخصية كطمع الوصول إلى سلطة أو المطالبة بحق أرضٍ غير مشروعة بطرقٍ ملتوية، أو أن يكون هذا البشري الشرير يسعى لرفع اسمه أيًا كان مبتغاه الذي يريده حتى وإن كانت النتيجة إراقة دم أو قتل أو تصفية كتلًا بشرية في الطريق لذلك المبتغى الذي يصبو إليه.
أما عن الخير فهو أيضًا موجود ولكن يحكمه التربية والبيئة والاكتفاء بالذات والتفكير بالآخرين وعدم الطمع، وهو مستفحل أيضًا في بني البشر ولكن ما بين هذا وذاك يكون البشري ليختار ربما بإيعازٍ منه أو إجبار أن يكون “شرًا محضًا” أو “الخير المطلق”.
أن تتألم فهذا شيء ينتهي خلال فترةٍ مؤقتة، ولكن أن تعاني من ذلك الألم مرارًا وتكرارًا فهو الذي يصيبك بالبؤس والشتات والرغبة في الموت للخلاص الأبدي الذي ليس فيه معاناة تذكّر جرّاء المعاناة من الألم الذي يتكرر في صورٍ ومشاهد لا نهائية.
ربما أحد العلاجات التي يقل عندها مستويات الألم هي مشاركة غيرك ما قد ألمّ بك، لذا العلاجات الجماعية النفسية تعد من أهم طرق العلاج التي يلجأ لها الأخصائيون النفسيون، لتعلم بأنك لست وحدك وبأن هناك من قد تجرّع أضعاف ما مرّ بك في يومٍ من الأيام.
أتعجّب فعلًا من موقف اليابانيين بعد قنابل هيروشيما وناجازاكي، لم يتوقفوا عند تلك النقطة ليندبوا حظهم وليسخطوا على الأقدار كيف قد أوقعت بهم، بل تجاوزوها وتصافحوا يدًا بيد مع من أسقطوا عليهم تلك القنابل “أمريكا” ولسان حالهم يقول بأننا عوقبنا بسببٍ ما قد اقترفته أيدينا تلك في يومٍ من الأيام مع البشر، ولكن لكي ننهض علينا النظر للأمام وترك كل شيء لا يبعث على السرور في الخلف.
وحادثة أخرى هي تعامل الألمان مما جرى لهم بعد الحرب العالمية في العام ١٩٤٥م، بعدما اجتاح الروس “الشوعيون” برلين العاصمة وقاموا بتلك الفظائع في سلاسل القتل والاغتصاب وممارسة كل فعل همجي على الألمان انتقامًا ونصرًا من وجهة نظرهم دون أدنى رحمة، ينسى الألمان كل ذلك ليوحدوا من صفّهم ويتركوا ما قامت به النازية في يومٍ من الأيام مع قائدها “أدولف هتلر” خلف ظهورهم وليعلنوا صراحةً بأن القدر لا ينسى وعلينا أن ندفع قيمة ما فعلناه في يوم ٍالأيام مع هؤلاء الروس، وبهذا تقدمت ألمانيا كما نعرفها اليوم دولة عظيمة تلقي رأيها وتجد من يستمع لها.
لنأتي على السؤال الفلسفي ما هي السعادة إذن دون جرعات من الألم؟
لن ترى بوابة السعادة دون الخوض في مسارات الأحزان. مثلًا، ما الذي يعنيه أن تفوز بالماراثون دون أن تبذل جهدًا؟ ماذا لو قُدّمت لك الميدالية الذهبية لما قد قطعته في ٤٢ كلم وأنت جالس في كرسيّك دون بذل تعب يذكر، هي لا شيء، لا معنى لها إطلاقًا.
أن تجبر نفسك على شيء بطواعيةٍ منك، يختلف شكلًا ومضمونًا في حال أحد ما أجبرك عليه، في مثالٍ آخر حينما تبلغ مجهودًا مؤلمًا كرياضة رفع الأثقال، أنت تشعر بالسعادة على شكلين، الأولى هرمونات من السعادة التي تنتشي بها في كل مرةٍ تقوم بها برياضةٍ مؤلمة، والثانية نتيجة متأخرة ترضيك وتدفعك للالتزام بهذا “الألم الجميل”. إذن ليس كل ألم هو مؤلم بالفعل، له جماليته بأشكالها المختلفة، دون أن يجبرك أحدهم في فعله دون رغبةٍ منك بالتأكيد.
أما على المثال الآخر أن تشتهي الشوكولاتة لتدعها تذوب في لسانك، ويداعبك طعمها لتستحوذ عليك بالكلية، فأنت بهذا ترجو السعادة، ولكن الدراسات أثبتت أن مع أكلك لقطعة الشكولاتة الرابعة، أنت لا تشعر بشيء، بل رغبة فقط في الاشمئزاز وبعدئذ التوقف. إذن السعي للسعادة بطلبها قد لا يجعلك تشعر بالسعادة على وقتٍ طويل بل لحظة تعلن نهايتها قريبًا، وقريبًا جدًا. ليس كل سعادة هي سعادة بالفعل، لها مساوؤها بأشكالها المختلفة، دون أن يختار أحدًا نوع السعادة تلك.
الألم يعني تقدير أكثر لمعاني الفرح، والسعادة تأتي لديك لكيلا تستحوذ عليها فقط، بل أن تشاركها غيرك، ولتجعل غيرك يشاركها الآخرين، كي تكون عدوى تصيب الآخرين لنفرح.
لذا تجارب الألم ليست أبدًا الشيء الخطر الذي لا نحبذه ولا نريد مواجهته بل على العكس، أن نواجهه ونتمرّغ في ترابه حتى نشعر بالمعاني السعيدة الأخرى، ولكي تعيش حياتك كيفما قُدّر لها بجوانبها الإيجابية والسلبية، لأن يصبح لها معنى وجوهر وهدف.
*تم الاستعانة بالعديد من القراءات الشخصية للمحرر وكذلك كتاب العرب وجهة نظر يابانية وأيضًا كتاب امرأة في برلين.