لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
"جري الوحوش" بعد أن كانت مجرد جملة عابرة نلجأ إليها حينما نود أن نضرب مثلًا بها، أصبحت هي عنوان العصر الحالي، زمننا هذا الذي ننغمس به دون أن نجد الإجابة على السؤال الأكثر غموضًا: هل ما نحن به من تداعيات الزمن أم أن الزمن ضحية لما وصل إليه الإنسان؟وفي البداية نحسب أن ما نحن نعاصره ما هو إلا طبيعة الزمن التي تزداد توحشًا أكثر فأكثر، مع تعاقب اللحظات، ونحن الفريسة له، ولكننا سرعان ما نجد أننا قد أخطأنا الظن وأن زمننا هو الفريسة الحقيقية لما يجده منا نحن بنو البشر، فالإنسان هو مصدر الخير والشر، البناء والخراب، الحب والكره، هو مصدر التناقضات إن أردنا صدق التعبير، فكيف لنا أن نلقي اللوم على زمننا الذي لم يفعل شيئًا سوى أنه وقف أمام أفعالنا مصدوما؟ فقط.منذ بداية الحياة والإنسان يسعى ويهرول نحو القمة، يريد أن يكون الأول في كل شيء، وحتى إن كان الأول في الشر، لا يهمه الأمر بقدر أنه يهمه أن يحظى بالمرتبة الأولى وإن كانت على حساب إنسانيته، يكفيه من كل هذه الرحلة أن يقتنص منها الجائزة الكبرى، نظرات العلو في أعين الخلق، يراهم يفتقدون القوة لكي يصلوا إلى ما وصل إليه من جاه أو سلطان أو شهرة، هو يتلذذ بنظراتهم هذه، وكأنه ينتظرها أكثر مما ينتظر المقابل من منصبه هذا، يتغير بهذه النظرات ويتبدل من المغمور ولكن بإنسانيته إلى المشهور ولكن بفقر نفسه.تراه متوهجًا تشع منه أنوار الفخامة والـ"شياكة" والـ"وجاهة"، ولكنه في الخُلُق عدم، ثيابه التي تكفي وأن تفيض على البشرية بكنوز اللؤلؤ والمرجان هي في الحقيقة بالية رثة، وإن كانت في نظره ثياب الملوك والأمراء، حسب أنه كذلك وكانت حساباته خاطئة وكانت هي المرة الأولى والأخيرة في تاريخه التي يخطئ، فهو الخطأ الذي لن يقوى على محوه أو الاعتذار عنه وإن أعاد كتابة تاريخه من جديد.الآن ..
وبعد عصور "الجاهلية" المنقضية، عدنا إلى عصور جاهلية أخرى ومن نوع خاص، وكأننا استقلينا آلة الزمن في رحلة لن نعود منها كما كنا، بل هي رحلة لا عودة منها من الأساس، الجاهلية التي حسبنا أنها سميت بهذا الاسم نظرًا لخلو عصرها من وسائل التقدم والمعرفة والتكنولوجيا، ولكن الجاهلية هو الاسم المعبر عما نعيشه الآن وبحق، وهي الصدمة الكبرى، فكيف بهذا الكم الكبير من التقدم والرقي نقع في حفرة من حفر الزمن ويصبح هذا التقدم هو طعنة الغدر الأولى بنا؟ ومن المفترض أنه منقذنا من هلاك الحياة، تبدل إلى قاتلنا الأجير وأخذ يقتص منّا وكأننا العدو الأوحد له.أصبحت إنسانية الفرد منا على حافة الانهيار، وبعد أن كانت كنزه الذي يفتخر بيه بين الأمم ويغدو في الأرض رافعا رأسه بها وإن كانت هي كل ما يملك في سبيله، أصبحت أقل من أن تذكر أمام أسطول عرباته وقصوره وأمواله، فقد ميز "الفاني" على "الباقي" وأصبح بهذا التمييز "الهالك"، ولكن قد يتساءل البعض منكم.- ما العيب في أن يسعى الإنسان ليحقق طموحه ويُصقله بالنجاح والشهرة والتميز فيما يفعله ؟
- ما السبب لهذه المُحاكمة غير العادلة ونحن مأمورون بعمارة الأرض وترك البصمة والعلامة بها؟
- هل الجاني هو من وضع خطته بدقة عالية حتى لا يُكشف ولا تزل أقدامه من على أرضه التي ثبتها على أساس الهيافة؟
- أم الجاني هو من سلم عقله وكيانه لمن كان له الفخ الأكبر؟
- أم أن الطرفين مُذنبان؟