لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
إذا غَلَت القدر مكشوفة تناقَصَ ماؤُها حتى يجفّ لأن النار تسخنُه فتلطفُه فيخفف فيصعد بخاراً وينتشر في الجو وإذا كان فيهِ شيءٌ ذائباً بقي في القدر.
فيقال حينئذٍ أن ماءَ القدر قد تحوَّل إلى بخار وهو ما يصعد عنها كالدخان . وإذا غلت مغطَّاةً انحصرَ البخار فيها ثم إذا كُشِفَت بسرعة كان داخل غطائها مبللاً لأن البخار ينضغط فيرجع ماءً كما كان. فلنا مما تقدم هذا الحكم وهو إذا عملت الحرارة فالماء لطفتُه فيصعد في الهواء وإذا عمل البرد به تكاثف وانضغط وعاد إلى ما كان عليه.
وذلك سرُّ الآثار المخيلة وما يبدو فيها من الظواهر الجوية موقوف عليه.
فالبحار والبحيرات والأنهار ونحوها من مماسك الماء بمنزلة القدر وما فيها والشمس بمنزلة النار فكلما أشرقت الشمس عليها عملت بها الحرارة فتسخنها فيتلطف ماؤُها ويصعد وينتشر متخللاً دقائق الهواء شفافاً لا يُرى فيبقى فيها إلى أن يطرأ عليه عارض. وإذا كان الماء قليلاً جفَّ وترك ما فيه.
ألم تر الملح يبقى في نقر الصخور بعد جفاف ماء البحر منها. وعلى ذلك تبخر المياهُ ويعي الجو بخارها لسكب الرحمة وإحياء الأرض.
قلنا إن البخار شفاف وإنما ظهر صاعداً عن القدر كالدخان لأن برد الهواء يمصه فيتكاثف قليلاً فيظلم ولم يظهر صاعداً عن البحار لأن حرارته تكون كحرارة الهواء لتوقفهما كلتيهما على الشمس. وإذا برد الطقس عما كان تكاثف البخار إما رويداً أو بسرعة. فإذا تكاثف رويداً قرب سطح الأرض تحول إلى نقط صغيرة وأظلم فيظهر وذلك هو الضباب وإذا تكاثف كذلك مرتفعاً عن سطح الأرض فهو السحاب فالضباب والسحاب سيَّان ولكن الضباب ما كان واطئاً من البخار المتكاثف والسحاب ما كان مرتفعاً منه. وإذا تكاثف بسرعة تحول إلى نقط كبيرة ووفع من الجو مطراً فالمطر هو بخار مائيٌ تكاثفت دقائقُه بسرعة فنزلت نقطاً متفاوتة في الكبر. والبرد مطر معتقدٌ لبرد شديد أصابُه. واعلم أن وقوع المطر متفاوت على سطح الأرض فيزيد في أماكن وينقص في أخرى على أحكام قد عُرف بعضها ولا يزال البعض الآخر غامضاً. فما عرف أنه يزيد على خط الاستواء وعللوا ذلك بريحين متضادتين أبداً تلتقيان عنده حاملتين بخاراً فتصعدان ريحاً واحدة إلى علو عظيم فيبرد البخار لارتفاعهما وينزل مطراً. وهو مذهب الجمهور وكثيرون يناقضونُه وربما كانوا مصيبين ولا يمكن تفصيل مذاهبهم هنا وإن تكن ملذة مفيدة. ومنها أنه يزيد على رؤوس الجبال عنه على سطح البحر وذلك لأنه إذا صعدت الريح على رأس جبل بردت فيبرد بخارها فيمطر. وحيثما وجدت سلاسل جبال عالية اجتذبت الأمطار إليها فتسير الريح عنها جافة فتجدب الأراضي التي وراءها وهذا هو سبب الصحاري فلا بد لكل صحراء من جبال تعارض الريح في مسيرها إليها فتتناول رطوبتها وترسلها جافةً. ومنها أنه ربما زاد في مكان بقرب جبل لمجرد قربه إلى ذلك الجبل أو قرب البحر لمجرد قربه إليه . ذلك فضلاً عن جهة الريح فإن أكثر المطر النازل في محل متوقف على الريح.
ومن العجب أن المطر يدور في الأرض على نظام دوران الدم في الجسد، تبخر البحار والأنهار فتسير بالبخار الرياح بشراً بين يدي رحمته فتعارضها الجبال وتلتقف المطر منها فتروي ظمأها وتبعث ما فاض عنها إلى الأراضي المطمئنة فترتوي به ثم تبعث الباقي إلى البحار. وأما ما نفذ منه الجبال فيجتمع ويتقطر ويجري عيوناً يشرب منها الحيوان ويرتوي بها النبات كأنها تحن إلى ربوعها فتترك اليابسة وتعود إلى البحر الذي خرجت منهُ وهكذا يتلو الجديد القديم إلى ما شاء الله من الزمان فتبارك من حكيم عليم.
ومن الشعراء الذين أبدعوا في وصف المطر وأتقن في تصوير مشهد تساقطه، الشاعر الأندلسي المعروف ابن الزقاق وهو قد امتاز برقة وصفه، فقد أثرت به – كغيره من شعراء الأندلس- جمال الطبيعة الأندلسية وسحرها، وهو في وصفه للمطر في يوم عاصف يقول:
مدمعٌ من أعين المزن سفح وحَمَامٌ بِذُرى الأيك صدحْ
فاجتن اللذة في روض المنى بين ريحانٍ وراح تصطبحْ
وسماءٍ نضجت خد الثرى بدموع أسبلتها فانتضحْ
وكأنّ البرق في أرجائها أرسلت نقْطاً به قوس قزح