لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد
لا شك أن الجميع منا عاش ألمًا ما في فترة من فترات حياته، ألمًا بمختلف أشكاله وألوانه، ألمًا نفسيًّا، ماديًّا أو حتى اجتماعيًّا. هناك مَن مَرِض فتألم وهناك من خسر منزله ووظيفته فتألم، وهناك من مات حبيبه فعاش تجربة الألم بأقصى مما نتخيل.. هناك من يتجاوز ذلك بأسرع ما يمكن وهناك من يأخذ بعض الوقت ليعاود حياته الطبيعية. نختلف جميعًا في تجربة الألم وشدته وحِدّته وحافزه ولكن نتشارك جميعًا أننا سنعبر خلاله في أحد مراحل الحياة، فلا يكتمل نضج المرء إلا من خلال عبوره لتجربة تجعله يرى الحياة بمشكل مختلف ويجرب إحساسًا يخرج بعده أنضج وأصلب وأقوى.
ومن خلال رؤيتي المتواضعة قد نبحر في الألم من خلال مراحل عدة
الألم
غيمة سوداء تحلق فوق رأسي، كل الأشياء معتمة ولا سبيل لهدايتي للنور. الكون توقف بي وما عاد يتحرك. وأنا عالقة عند اللحظة والثانية التي خيم فيها الحزن فوق رأسي. والله إنني أنهار في اليوم ألف مرة ، أبكي وأذرف ألف دمعة ولا أعلم كيف سأنهض من جديد! فهل حقًّا نحن ننسى؟ هل حقًّا تنقشع تلك الغمامة من فوق رأسي؟ هل حقًّا ننسى تفاصيل الأماكن والأشخاص والذكريات؟ هل حقًّا يجب أن ننسى كيف كانت قلوبنا مبتهجة سعيدة تعيش في سلام ثم من غير سابق إنذار تبعثرت؟إنني لا شيء سوى فتات إنسان يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة. ولا يوجد هناك أمل. فقدت كل شيء يجعلني أشعر بالحياة. اليوم أنا أبكي ولا أعلم كيف ستتوقف دموعي، ولا طاقة لي بفعل أي شيء. فمجهود قليل كوضع ملابسي في الغسالة أصبح عبئًا علي. لا أريد سوى النوم؛ نومًا طويلًا ينطفئ معه ألم قلبي رغم يقيني أن لا شيء يطفئ الألم. يَئِست! فقدت الأمل، فقدت قدرتي على وصف مشاعري ويأسي حزني، فلا أحد يفهم ولا أنا أستطيع أن أصف وصفًا دقيقًا لما أمر به. لا أتمنى سوى أن أنام فأستيقظ لينتهي الكابوس ولكن الكابوس لا ينتهي والنوم لا يعالجُ أي شيء.نعم! توصلت إلى مرحلة قاع اليأس مرة أو اثنين من حياتي. وربما أنت أيضًا عزيزي القارئ قد بلغ منك اليأس منتهاه. في هذه المرحلة تظن أنك الأضعف على الإطلاق. قليل الكلام كثير الصمت، كثير الحاجة للوحدة والاختلاء بنفسك وأفكارك وحزنك الذي لا يشعر به أحد. تشعر بالغضب والسخط من الكوكب، ومن معاناتك التي غيرت حياتك رأسًا على عقب، فلا تريد سوى حياتك القديمة التي عهدتها حياة مريحة مليئة بالسلام الذي لم تكن تقدّره آنذاك.عزيزي القارئ أطمئنك، إن بلغت هذا القاع من اليأس، فهنيئًا لك بصفةٍ من صفات العظماء. هنيئا لهذه المرحلة أن طرقت أعتاب روحك، فاليأس صفة الأقوياء وهنيئًا لكل يائس بالقوة، فنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يأس مرات عديدة. تألّم، بكى، شعر بنفس الوحدة والظلام، هام في مشارق الأرض ومغاربها، سار أميالًا عديدة في وحدة وظلام، بكى وحزن عند وفاة زوجته وحبيبته، تألم لوفاة ولده، يأس عندما تأخر عليه نزول الوحي. بكى في حجر زوجته دون أن ينطق ببنت شفة. فاليوم، لا مجال لنا من أن نقسوا على أنفسنا إذا شعرنا بنفس اليأس والإحباط.
إدراك الواقع وتقبل المشكلة
عندما بلغ مني اليأس ما بلغ، كنت أتساءل هل نقص إيماني؟ هل فقدت صبري ولم أؤمن بقضاء الله وقدره؟ هل أصبحت لا أشكر الله على النعم؟ كانت التساؤلات تحوطني من كل جانب، ولكنني اتخذت قرارًا بالتوقف عن كل شيء. تجمدت، توقفت عن التساؤل والسخط من حزني ومحاولة إجبار نفسي على التجاوز أعطيت نفسي حقها وأقنعت نفسي ألا أحارب نفسي لفترة من الزمن. أقنعت نفسي أن أعيش الحزن بكل ذرة من قلبي، لا أنتقص ولا أسمح لأحدٍ بالانتقاص من حجم ألمي. أبكي كلما شعرت برغبةٍ ملحةٍ في البكاء. أنام كلما احتجت ذلك. آكل كلما احتجت لمزيدٍ من الطعام، أتوقف تمامًا عن الطعام كلما فقدت شهيتي، أخرج من المنزل كلما احتجت، وأسهر لأشاهد مسلسلًا تافهًا كلما تاقت نفسي. لم أفعل شيئًا سوى أن أحببت وتقبلت نفسي الحزينة، كما أحببت نفسي السعيدة المشرقة، وليأخذ ذلك من الوقت ما يأخذعزيزي القارئ، أعلم أن رحلة التجاوز والنسيان والتعافي ليس بالرحلة السهلة ولكن أول مراحل تجاوز ذلك الخندق الذي عبرت روحك خلاله هو التقبل. يجب أن نتقبل الحزن لنتجاوزه، نتقبل أن نحب ثم يخذلنا من نحبهم، نتقبل أن نتعب في مجال ما ثم نصبح بلا وظيفة، نتقبل أن العالم لم يحبنا كما أحببناه، نتقبل أن الحياة قد تنعطف بنا نحو ممرات لا نشتهيها. نتقبل الوضع الجديد ونتعامل على أن الحياة لن تعود إلى سابق عهدها.
التجاوز
توالت الأيام والأسابيع، لملمت شتات نفسي. حزنت حتى مللت من الحزن، ذرفت ألف دمعة، وفي الدمعة الواحدة بعد الألف خفّ وجعي. ركضت مائة ميل وفي الميل الواحد بعد المئة شعرت أن الألم أخف وطأة على روحي. كتبت آلاف الكلمات وسطرت مئات الأسطر لأستطيع بعدها أن أنهض من جديد. اليوم، بعد عدة أسابيع ما عدت أشعر بالوجع، وما عدت أبكي لياليَ طوالًا، كان الحزن أقل وطأة على قلبي.. كخطوات طفل يتعلم المشي بدأت حياتي من جديد، بدأت أمارس رياضتي المفضلة من جديد دون أن أضغط على نفسي بأن أحقق نقاطًا عالية، توقفت عن الأكل بشراهة والتزمتُ بنظام صحي جديد. ألزمت نفسي من جديد بصفحات قليلة من القرآن. كنت أتعامل مع نفسي كطفل صغير أكسبه بعض العادات الصحية. وما عاد روتيني اليومي شاقًّا كما كان أيامًا من قبل.
الإنسانية
خلال رحلتي مع الحزن كنت دومًا أتساءل عن الحكمة. رغم أن إدراكي نقطة في بحر حكمة الله، رغم أن الحزن ضيف غير مرحب به إلا أنه أكثر التجارب الإنسانية تأثيرًا على حياتي. قبل تجربتي مع الألم كنت مدللة أمتلك الكثير من النعم التي لم أقدرها يومًا. فقد كنت أشعر دائمًا أنه ينقصني شيء ما. ولكن الحزن أخرجني من ظلمات نفسي الأنانية لنور النعم التي أغرق فيها يوميًّا دون أن أشعر.حولني الحزن إلى شخص وحيد، والوحدة عرفتني على نفسي بشكل مختلف. أصبحت اليوم شخصًا ممتنًا لكل شيء في حياتي. ممتنة لمنزلي وسيارتي وعملي المتواضع الذي أكسب منه ما يكفي بالكاد احتياجات الشهر. أصبحت أقدر جدًّا اليوم العادي الروتيني الممل. فهذا اليوم هو أمنية للكثيرين، فمن يمتلك قوت يومه وكان معافى في جسده فكأنما امتلك الدنيا وما فيها. خلال حزني تعرفت على أصدقائي بشكل مختلف خسرت الكثيرين منهم ولكن بالطبع اكتسبت أكثر الأشخاص حبًا ووفاءً على وجه الأرض ولا أظن أن هناك امتحانًا أقوى لصداقتنا من هذا الامتحان. منحني الحزن كاريزما خاصة أتفهم بها أحزان غيري واحتوى مشاعرهم. منحني الحزن إنسانًا سهلًا لينا طيب المعشر هادئًا محبًّا وممتنًا للحياة. منحني الحزن سلامًا نفسيًّا أستقبل به كيد الحياة بخالص الرضا.
عزيزي القارئ دعنا نتخيل أن الحزن ليس ابتلاء بل تجربة ومنحة وهبها لنا الله -عز وجل- لنخرج من مناطق راحتنا إلى آفاق أبعد وطرق جديدة لم نكن لنسير فيها دون أن نبحر في قيعان الحزن. لن تكون قويًّا صلبًا فذًّا إلا برحلة مليئة بالمغامرات وخيبات الأمل والحزن ثم البدء من جديد في كل مرة يخذلك فيها العالم. الحزن ليس ابتلاء بل تجربة تختبر فيها نفسك آراءك ومعتقداتك. كيف تتصرف وكيف تتحكم بنوبات غضبك وكيف تتجاوز وكيف تسامح وكيف يتوقف بك الزمن لأيام وأسابيع لتعاود تحديد أولوياتك واختياراتك.
في نهاية المطاف أصبحت ممتنة للحزن ذاته الذي منحني طاقة الحرية لرؤية الحياة بشكل أعمق وأنضج.
إليك أيضًا
تابع قراءة عشرات المقالات الملهمة على زد